( وجدنا أنفسنا بفعل المذبحة التي تجري في غزة)
ماذا يحدث في غزّة؟
إعداد: سليم النجار- وداد أبوشنب
" مقدِّمة"
مفردة "السؤال" وحدها تحيل إلى الحرية المطلقة في تقليب الأفكار على وجوهها، ربّما هدمها من الأساس والبناء على أنقاضها، كما أنَّها من أسس مواجهة المجازر وحرب الإبادة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في غزّة والضّفّة، من قِبَل الاحتلال الاسرائيلي٠
في هذا الملف نلتقي بعدد من الكُتّاب العرب الذين يُقدِّمون لنا رؤاهم حول ماذا يحدث في غزّة؟
وما يستدعي الدرس والتمحيص والنقاش والجدال والنقد، لأنّ الأشياء تحيا بالدرس وإعادة الفهم، وتموت بالحفظ والتلقين٠
الناقد د. سمير مُندي من مصر يكتب لنا من زاويته "ماذا يحدث غزة"؟
المسافة صفر
د. سمير مُندي/مصر
مقدمة:
مرة أخرى يضعنا التاريخ أمام حقيقتنا وجهًا لوجه، حقيقة تهافتنا وتهافت نَهضاتنا التي نَهضْناها مرات ومرات دون أن ننهض، في واقع الأمر، أو تقوم لنا قائمة. كم مرة طرحنا أسئلة حول سبل ومشروعية علاقتنا بالغرب؟ وكم مرة قدمنا قراءات لتاريخنا ولتراثنا ونكباتنا وهزائمنا؟ ألم نتجرع هزيمة مُرة في حرب 48، ثم في حرب 67، ثم نكبتنا بحرب الخليج الأولى والثانية؟ حتى أصبح كل جيل يعاني في حياته نكبة أو نكبتين على الأقل. دون أن نتمكن مع كل نكبة من أن نطل برؤوسنا من خنادقنا المعتادة: النكبة، الصدمة، الانكفاء على الذات. وها نحن أولئك على أعتاب نكبة جديدة. فما شَهدناه وما نشهده في غزة الآن يضع، من جديد، علاقتنا بالغرب موضع تساؤل. مثلما يضع أفكارنا ورؤيتنا لأنفسنا، مرة أخرى، على الطاولة. ما يجري يستلزم مراجعة صريحة وصادقة لأنفسنا لا لأجل فهمه والتعامل معه وحسب. إنما، وهذا هو المهم، لأجل قراءة ما سيكون عليه المستقبل، الذي لابد وأن خطوطه العريضة قد رُسمت خلف الجدران. إن الحقائق المؤلمة التي تَترى على الأرض، في غزة الصامدة، تُحرج الفكر الإنساني برمته، فما بالنا ونحن أصحاب المحنة؟
إنّ ما يجري الآن يطرح رؤى:
أولاً: بين الفكر والعمل
بداية وقبل كل شيء، حول ما إذا كان الفكر هو البديل السهل للعمل. فما دمنا نفكر ونمعن في التفكير، فإننا، في واقع الأمر لا نعمل. فالتفكير حظ الذين لا يعملون، كما يقول ديدال، في مسرحية ثيسيوس. والعمل هو عمل المقاومة التي تعرف في نفسها النزوع إلى الاستقلال، وصناعة المصير بعيدًا عن أي قوى خارجية. ولقد ضربت لنا المقاومة الفلسطينية الأمثلة على إمكانية العمل في أحلك الظروف وأشدها عسرًا ما إن تتوفر الإرادة. وما أن ندرك أن إرادة الاستقلال لا بد وأن تحميها إرادة القوة. فالقوة هي اللغة التي يتكلمها عالم مُنخرط، باستمرار، في صراعات، عالم تغلبت عليه الإيديولوجيا. ونحن مضطرون، والأمر كذلك، إلى الاعتراف بأن الأقوياء هم الذين يكتبون التاريخ، والمنتصرون هم الذين يُوَقعون بأسمائهم على الحجر والسهل والجبل.
وثانيًا: علاقتنا وتبعيتنا للغرب
إن ما شهدناه ونشهده من جرائم في غزة، ومن ازدواجية المعايير الأخلاقية الغربية التي فضحتها ردود الأفعال المتباينة تجاه الحروب والأزمات شرقًا وغربًا، وما لمسناه من نظرة الاستعلاء والازدراء التي يَرْخصُ فيها الدم العربي يضعنا أمام معضلة الكيفية التي يمكن أن نفكر فيها في الغرب. وبالتحديد كيف يمكن أن نفكر أخلاقيًا في غرب لا أخلاقي؟ هل نستطيع، أن نفرق، في فكرنا وخيالنا، بين غرب استعماري يرانا في مرتبة أدنى من الحيوان، وغرب متقدم نتعلم منه ونتخذه مثالاً يُحتذى، على نحو ما فعل أجدادنا التنويريون أمثال محمد عبده وطه حسين؟ أم أن علينا أن نقيد علاقتنا بالغرب، ونخفف من حدة تبعيتنا الفكرية والثقافية له؟ وكيف يمكن، ونحن نفعل ذلك، أن نتقي خطر تنامي الأصوليات والأيديولوجيات الدينية التي تنمو وتزدهر في تربة الهزيمة وخيبات الأمل؟ أم أن علينا أن نفكر للمرة المليون في صيغة وسطية كما دعا إليها زكي نجيب مثلاً تحت عنوان «الأصالة والمعاصرة»؟ لقد وضعت الأحداث الأخيرة الغرب تحت علامة كشط، وجعلت من غير الممكن الحديث عن القيم الغربية والثقافة الغربية إلا على نحوٍ مقيد ومشروط.
لقد بدأنا نرى تكتلات هنا وهناك مما أصبح يُسمى دول الجنوب العالمي، وهي دول استطاعت أنَّ تقطع شوطًا طويلاً على طريق التنمية والتقدم بعيدًا عن النموذج الغربي. بل إنها أثبتت أن التقدم لا ينبني بالضرورة على نموذج الديمقراطيات الغربية، ولا على الرأسمالية الليبرالية الاستهلاكية. إنما ينبني، بالأساس، على السعي الحثيث نحو اكتشاف آفاق جديدة للتنمية والتطور. فلماذا لا نبحث نحن أيضًا عن سبل جديدة للتنمية؟ ولست أدعو بذلك إلى قطيعة مع الثقافة الغربية، بقدر ما أدعو إلى إعادة ترتيب أوراق علاقتنا بها. فلقد فهمنا وعرفنا أن المياه التي حملت سفننا منذ حوالي قرنين إلى أوروبا للدراسة والعلم هي نفسها المياه التي نزلت على شواطئها السفن الإنجليزية قبيل احتلال مصر، وهي نفسها المياه التي تعبرها الآن حاملات الطائرات والغواصات النووية الأمريكية لمحاصرة مدنيين عُزل وإبادتهم.
وثالثًا: كيف سنعيد حسابات التواصل الاجتماعي
كيف سنعيد حساباتنا مع مواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات الشهيرة مثل فيسبوك وتويتر مثلاً، بل ومع فضاء الإنترنت ككل، نحن الذين وجدنا أنفسنا، بفعل المذبحة التي تجري في غزة، وجهًا لوجه أمام تطبيقات منحازة بوضوح للرواية الغربية -الإسرائيلية للأحداث، دون أن تجد روايتنا فضاءً عادلاً يجعلها مرئية ومسموعة. لماذا لا نعيد تقييم علاقتنا بتطبيقات كهذه تحجب روايتنا للأحداث وتتدخل في طريقة تمثيلنا لأنفسنا ولقضايانا وهمومنا؟ لماذا لا نتخذ موقفًا موحدًا يجبر صُنَّاع هذه التطبيقات على الاستماع لأصواتنا وأخذها في الحسبان؟ إن هذه التطبيقات التي لعبت دورًا نعرفه جميعًا في إثارة الفوضى خلال ثورات الربيع العربي تتنكر لنا الآن، وتتنكر لقيم حرية الرأي التي لطالما عايرتنا وتباهت بها علينا. اُستخدم الإنترنت كسلاح ضدنا وضد عدالة تمثيلنا لأنفسنا وروايتنا للأحداث، وذلك بموازاة تسهيل الرواية الإسرائيلية- الغربية ونشرها وتمكينها.
لقد ثَبُتَ أن معاهدات السلام التي أبرمتها إسرائيل تحت عنوان اتفاقيات أبراهام لا يمكن أن تحقق أي سلام حقيقي مالم تتضمن تسوية منصفة للحق الفلسطيني. وفي الوقت الذي ظنت فيه إسرائيل أنها اندمجت في المحيط العربي، فإذا هي أبعد ما تكون عن هذا المحيط. وفي الوقت الذي اعتقدت فيه أنها نجحت في شيطنة إيران وتحويلها إلى فزَّاعة لجيرانها، فإذا إيران اليوم أقرب للعرب أكثر من أي وقت مضى. دون أن يجهل أحد، في واقع الأمر، أن معاداة إسرائيل لإيران ما هي إلا إقرار بقوتها، وخشية من تحولها إلى حجر عثرة في طريق طموحاتها التوسعية، ونوايَاها المُبيَّة في التسلط على العرب وقيادتهم بحجة أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة، وبحجة أنها بوصلتنا تجاه نيل رضا الغرب الأوربي والأمريكي الذي يعادي من يعاديها، ويرضى عمن ترضى عنه.
والآن برح الخفاء، عرفنا كيف يرانا الغرب، وعرفنا قيمتنا في أعين إسرائيل وأعين حلفائها. لقد أصبحنا على مسافة صفر من حقيقتنا الحقة، لا شيء يمكن الآن أن يُعمينا عن حقيقتنا، ولا شيء يمكن أن يُجمل واقعنا في أعيننا بعد كل ما جرى: فماذا نحن فاعلون، وماهي الشروط الفكرية الجديدة التي يجب أن نفكر من خلالها بعد أحداث 7 أكتوبر؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسافة صفر: تعبير استخدمته المقاومة الفلسطينية في وصفها للاشتباك مع العدو الإسرائيلي. ويستفيد المقال منه في التعبير عن مواجهة فعلية تحدث مع الذات.