العودة إلى الحارة
سعيد الصالحي
كنت في زيارة لحارتنا القديمة، وسرت سعيدا في الشوارع التي لا تتغير، أستعيد ذكريات شجاري الأول وهزيمتي الأولى، فهذه الأزقة شهدت كل أوائل الأشياء وهنا لعبنا ألعابنا الموسمية وهنا شاركنا في زفة عريس وفرحنا بحصولنا على المطبقيات في الأعراس، وهنا أيضا توقفنا عن اللعب والمشاغبة وشاركنا أبناء جارنا البكاء عندما توفى والدهم، للأسف لم أصادف أحدا من الجيران القدامى ولكن استعدتهم جميعا في شريط ذكرياتي، وقلت في نفسي عندما يهدأ طوفان الأقصى وتحبس السماء ألسنة النار والحمم التي تتنزل على غزة ويعود ابن عمي الصامد نحو الشمال نحو حارته التي انصهرت في الرمال، فأي ذكريات سيستعيد؟ فالذكريات تموت وتصبح خزعبلات وأساطير عندما تختفي المعالم وتتنكر لها الجغرافيا سواء برضاها أو رغما عنها.
عدت إلى حارتي فلم أشتم فيها رائحة حساء العدس التي كانت تستقبلنا عند ناصية الشارع بشماتة، وكان كل واحد منا يتمنى ألا يكون بيته الصغير هو مصدر هذه الرائحة، وفي غزة عندما يستنشق ابن عمي رائحة حساء العدس يرقص قلبه فرحا لأنه يدرك في هذه اللحظات أن بعض العدس المجروش قد تجاوز المعبر بفدائية، وأن أحد الجيران قد حصل على قنينة من الكاز ليشعل نارا للطهي، كم هي سريالية صورة النيران في غزة! فالنار التي خلقت للقتل لا تصلح للطهي فنار الصهاينة غير صالحة لأي استعمال آدمي.
في حارتنا القديمة كانت عيون السكان الجدد ترقبني بدهشة وحيرة وريبة أحيانا، وأنا كنت أوزع الابتسامات كالأبلة عليهم وألقي السلام على الجميع، وبعضهم كان يرد علي والآخرون كانوا يكتفون بإمائة من رؤوسهم، وكأن الحديث ورد السلام سبة في هذه الحارة، أما ابن عمي العائد نحو الشمال فسيستقبله سكان الحارة بالأحضان والقبلات، والكل سيرشده بمحبة إلى حطام بيته، وسيدعونه لمشاركتهم كوب نقي من الماء في ظلال ما تبقى من بيوتهم، فنيران الصهاينة ربما التهمت بعض الجيران والجدران والطرقات ولكنها لم تغتل مشاعرهم ومحبتهم لسابع جار، وعلى ما يبدو أن حارتنا القديمة قد خلت من الجار السابع، والجيران الستة لا يستحقون حبا ولا عطفا.
فيما مضى كنا نحس سور بيت جارنا الأستاذ طه عاليا جدا لا يمكن تسلقه لاختطاف بضع حبيبات من شجرة المشمش أو قطف حصرم، أما اليوم فالسور قصير يمكن القفز من فوقه بوثبة عالية، وشجرة المشمش أشبه بهيكل عظمي لشجرة لم تجد من يدفنها رغم وفاتها منذ سنوات، ودالية العنب أصفرت أوراق دواليها فوق الأغصان، ولم يفكر أحد من السكان الجدد بقطافها فهل هؤلاء السكان لا يجيدون لف ورق الدوالي أم أنهم يخشون روح الأستاذ طه التي تحرس إرثه الذي لا يعني لهم شيئا؟
في تل الهوى هناك كان ابن عمي وجيرانه يتسابقون في قطف أرواح الشهداء من الجيران وتجميعها، وكثيرا ما كانت تدب بينهم الخلافات حول مصير أحد الجيران عندما لا يجدون لروحه أثرا، فمنهم من يقول ما زال حيا والآخرون يقولون بأن روحه ما زالت تحت الأنقاص، وأكثر مشاكلهم كانت عندما يلتقطون روحا هائمة لم تكن معروفة لديهم، ولكنهم كانوا يكرمونها لأنها بالتأكيد لفلسطيني أما الصهيوني فروحه أكثر جبنا من أن تحلق وتنبعث في سماء غزة، في حارتنا الجيران يخشون روح الأستاذ طه الطيبة وهناك يداعبون الأرواح الطيبة ويزرعونها كأساس وجذر لإعادة الإعمار.
فالحارات لا تحرقها النيران أو القصف المدفعي بقدر ما يجعلها رمادا تبلد مشاعر ساكنيها وتضخم علاقاتهم ببعض تبعا لأحوال السوق وخضوع ابتساماتهم للمصالح وقانون العرض والطلب.