كمائن موت ومعارك وجهاً لوجه في غزة ..

يرجّح السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة أن تواصل الولايات المتحدة دعم إسرائيل في حربها على غزة لعدة أسابيع إضافية، رغم تحفّظات وانتقادات الرئيس جو بايدن وتحذيراته من فقدانها الشرعية لدى المجتمع الدولي.

في حديث للإذاعة العبرية الرسمية، صباح اليوم الأربعاء، قال غلعاد أردان إن من حق الرئيس بايدن قول ما يشاء، وإن إسرائيل مدينة بالشكر له، وهي تثق أنه، بتجربته الطويلة وحبه لنا وفهمه الواقع المعقد للحرب والحاجة لاستكمالها، لن يسمح بتأثير الخلافات بيننا على موقفه.

وكان غلعاد أردان قد عقّب، أمس، على قرار الأمم المتحدة، الداعي لوقف الحرب بأغلبية 153 دولة، ومعارضة الولايات المتحدة مع عشر دول أخرى، بالدفاع مجدداً عن قرار استمرار الحرب على غزة، ملقياً الكرة في ملعب "حماس”. ثم بادر للكشف عن رقم هاتف يحيى السنوار، داعياً الدول لمهاتفته "من أجل وقف الحرب”.



في اليوم الثامن والستين للحرب على غزة، اعترف جيش الاحتلال الإسرائيلي بمقتل عشرة جنود من وحدة "غولاني”، وإصابة عدد من الجنود في مواجهات داخل الشجاعية، أمس. وتعتبر جهات إسرائيلية أن هذا "حسابٌ مفتوح” بين الشجاعية وبين لواء "غولاني”، الذي كان قد تعرّض جنوده للقتل والأسر في عدوان "الجرف الصامد”، عام 2014، وهو فعلاً "حساب مفتوح” لكنه أطول وأعمق من 2014، ويعود لنقطة البداية، للعام 1948، فالكثير من أبناء الشجاعية لاجئون طردت عائلاتهم في النكبة الفلسطينية من مناطق يافا واللد والرملة ومجدل عسقلان وبئر السبع وسدود، ومناطق أخرى داخل أراضي 48 أقيمت عليها مستوطنات كثيرة في ما يعرف بـ "غلاف غزة”، وهم على بعد مرمى عصا منها، ويحرمون من ممارسة حق العودة لها، بل وجدوا أنفسهم محاصرين داخل قفص، منذ 2007.

العدو أماكم والبحر وراءكم
يجد مقاتلو الشجاعية أنفسهم الآن محاصرين بالكامل: العدو أمامهم، والبحر وراءهم، يقاتلون حتى آخر رصاصة، رغم دعوات إسرائيلية متكررة للاستسلام.

يستعد نتنياهو لخطاب انتخابي يتوجه لغريزة الخوف الدفين بلغة عنصرية وتحريضية شعبوية، كما فعل في حملته الانتخابية الأولى، عام 1996، تحت شعار "بيريز يقسّم القدس” و”نتنياهو جيد لليهود”

في حديث للإذاعة العبرية، قال الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية، مدير معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب، الجنرال في الاحتياط تامير هايمان إن "الثمن باهظ، لكننا قريبون من حسم "حماس” في شمال القطاع”. وعلّل مزاعمه بالقول إن "مقاتلي "حماس” و”الجهاد الإسلامي” محاصرون في الشجاعية وجباليا من كل الجهات، ولا خيار أمامهم سوى القتال حتى الموت أو الاستسلام. بعضهم استسلم، لكنهم يواصلون المواجهة بشراسة.

كما يؤكد المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس” عاموس هارئيل على صعوبة وخطورة القتال في الشجاعية وجباليا، إذ يتحدث عن "معارك صفرية”، وأن "القتال يجري وجهاً لوجه، وداخل مناطق سكنية مزدحمة، قسم فقط منها مهدم، ما يثقل على الجيش الغازي كجيش نظامي”.

ضمن تفسيره لخطورة القتال في حصون "حماس” في شمال القطاع، يقول هارئيل أيضاً إن "المناطق السكنية، مع وجود فتحات أنفاق، تتيح لخلايا "حماس” الاحتكاك المباشر مع الجنود الإسرائيليين، وأحياناً على بعد أمتار فقط. وهذا واقع يضيّق الامتياز النسبي للجيش”.

ونقلت صحف عبرية عن مصادر عسكرية إسرائيلية قولها إن مجموعة جنود دخلت عمارة في الشجاعية بغية "تطهيرها”، وهناك فتحتْ خليةٌ حمساوية النار عليهم بالقنابل اليدوية والرصاص حتى أجهزت عليهم. وتابعت هذه المصادر: "عندما قطع الاتصال اللاسلكي بين الجنود الأربعة وبين قيادة السرية ( التابعة للواء "غولاني”) وصلت مجموعة إسناد وإنقاذ للجنود الأربعة، وسط قلق من احتمال أنهم تعرّضوا للخطف أيضاً، ولكن عندما دخلت القوة الثانية تم تفجير العمارة، وقتل القوة المساندة، وبعد قليل شهد المكان تفجيراً ثالثاً أدى لقتل سبعة جنود وإصابة عدد آخر، لكننا، في المقابل، نواصل قتل مئات من جنود حماس”.

يشار إلى أنه منذ وقعت هذه العملية في الشجاعية، مساء أمس، سرتْ في إسرائيل معلومات غير رسمية أن ثلاثة مستشفيات إسرائيلية طلب منها إعلان حالة تأهب قصوى نتيجة وقوع "حادثة شاذة” داخل قطاع غزة.

ضغوط أمريكية؟
في التزامن، وللمرة الأولى، يوجّه الرئيس الأمريكي جو بايدن انتقادات علنية مباشرة لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، بعدما أكد أن إسرائيل تفقد الدعم للحرب لدى المجتمع الدولي.

في البداية، قال بايدن إنه ينبغي تغيير تركيبة الحكومة في إسرائيل، وهي الأكثر "محافظة” حتى الآن، وإنها تفقد الدعم في العالم، وما لبث أن قال إن على نتنياهو تغيير ذاته من ناحية الموقف من تسوية الدولتين.

وعلى خلفية تعبير واشنطن عن القلق من استمرار المساس بالمدنيين الفلسطينيين، جراء القصف العشوائي، كشفت الإذاعة العبرية أن نتنياهو كان قد قال لبايدن، في حديث سابق، إن إسرائيل لا تقوم في غزة بما يختلف عما فعلته الولايات المتحدة في أفغانستان، وعندها عقّب بايدن بالقول: "هذا صحيح، ولذلك شكّلنا لجاناً وأقمنا مؤسسات كي لا يتكرّر ذلك ونتحاشى هذه الأخطاء”.

وتواصل الولايات المتحدة مطالبة إسرائيل بطرح خطة لليوم التالي للحرب، وبإشراك جهات فلسطينية، وهذا ما يرفضه نتنياهو مرة تلو المرة.

وفي الأمس، صعّدَ لهجته بالقول إنه لن يسمح بعودة إسرائيل إلى خطأ أوسلو، وغزة لن تكون لا حماستان ولا فتحستان”.

كما قال، ضمن تحريضه على الفلسطينيين، وفي إطار حملته السياسية الشخصية، إن "حماس” تريد القضاء على إسرائيل دفعة واحدة، بينما تريد "فتح” فعل ذلك بالخطة المرحلية”.

واعتبرت أوساط إسرائيلية واسعة، أبرزها رئيس المعارضة يائير لبيد، أن تصريحات نتنياهو حول  أوسلو، خاصة القول إن ضحايا أوسلو مساوون لضحايا السابع من أكتوبر، تنمّ عن حسابات سياسية، وتندرج ضمن محاولة تبرئة نفسه من الفشل الذريع، وإلقاء اللوم على الآخرين، علاوة على التورّط بحملة سياسية شخصية أطلقها، منذ أيام، في نطاق مساعيه للبقاء والنجاة من الحساب العسير الذي ينتظره.

 صعّدَ نتنياهو لهجته بالقول إنه لن يسمح بعودة إسرائيل إلى خطأ أوسلو، وإن غزة لن تكون لا حماستان ولا فتحستان

في افتتاحيتها اليوم بعنوان "كفى للكذب” حملت صحيفة "هآرتس” على نتنياهو، واتهمته بخلط الأوراق، والانشغال ببقائه السياسي في ذروة الحرب النازفة.

كما حمل الوزير العمالي الأسبق دكتور إفرايم سنيه، في تصريحات إعلامية، على نتنياهو. إذ قال: "لا يوجد ضحايا أوسلو، بل هناك ضحايا للتطرف الإسرائيلي بعد أوسلو، كمذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل”، متهماً نتنياهو بالكذب.

يشار إلى أن نتنياهو صعد لسدة الحكم بعد اغتيال رابين وتغلبه على بيريز، في انتخابات 1996، وكان هو من طبّق "اتفاق الخليل”، والتقى الرئيس عرفات عدة مرات، قبل أن ينتقل للتحريض على السلطة الفلسطينية، ويسعى لتكريس الانفصال الجغرافي السياسي بين القطاع والضفة الغربية لمنع قيام دولة فلسطينية. إضافة لتوجهاته المبدئية برفض التسوية مع الشعب الفلسطيني، فإن نتنياهو بات يستغل مخاوف الإسرائيليين بعد ضربة السابع من أكتوبر لترميم شعبيته، والاستعداد لانتخابات عامة مبكّرة محتملة من المرجّح أن يرفع فيها شعاراً يقول إنه الوحيد القادر على منع قيام دولة فلسطينية تهدد أمن الإسرائيليين، مخاطباً غريزة الخوف الدفين بلغة عنصرية وتحريضية شعبوية، كما فعل في حملته الانتخابية الأولى، عام 1996، تحت شعار "بيريز يقسّم القدس” و "نتنياهو جيد لليهود”.

 وجهته للتصادم
وتطرق الناطق العسكري الإسرائيلي دانئيل هغاري، أمس، للانتقادات الأمريكية الخاصة باستمرار استهداف المدنيين الفلسطينيين، زاعماً أن جيش الاحتلال يقوم باتصال دائم مع الجهات الأمريكية المعنية، ويسعى للقيام بخطوات دقيقة لتحاشي المساس بالمدنيين”.

ومقابل الصمت الرسمي في إسرائيل على تصريحات ودعوات بايدن، نقلت صحيفة "هآرتس” عن مسؤولين إسرائيليين كبار قولهم إنه في هذه المرحلة لا انسحاب من شمال القطاع، وإن الفلسطينيين سيعودون إلى هناك بشكل مدروس، وبعد غربلتهم”.



 في المقابل، تعتبر جهات إسرائيلية غير رسمية أن تصريحات بايدن إشارات واضحة لها بضرورة وقف الحرب. من هؤلاء القنصل الإسرائيلي الأسبق في نيويورك، الخبير بالشؤون الأمريكية ألون بينكاس، بأن بايدن ليس فقط لا يوافق على كلمة واحدة يقولها نتنياهو، بل لا يثق بأي كلمة تخرج من فمه. وينوه بأن بايدن يذكر كيف كذب نتنياهو في السابق على كلينتون وأوباما وترامب، والآن يكذب عليه أيضاً.

 كما يعتبر بينكاس، في مقال نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت” اليوم، أن تصريحات بايدن تدلل على نشوء فجوة بين أمريكا وإسرائيل نتيجة اختلاف التوجهات والسياسات ويضيف: "صبر واشنطن ينتهي”.

ساعة بايدن
تحت عنوان "ساعة بايدن”، يواصل المحلل السياسي الإسرائيلي البارز ناحوم بارنياع حملته على نتنياهو، ويعتبر أن بايدن قال عملياً، أمس، بصوته، ما قاله مسؤولون أمريكيون داخل غرف موصدة: إسرائيل تفقد دعم المجتمع الدولي. معنى ذلك بالعبرية: ليس مؤكداً أن تصوّت واشنطن بالفيتو في الأمم المتحدة في المرة القادمة”.

هناك من يرجح أن يكون الثمن العالي، المتمثل بمقتل عدد كبير من الجنود، سبباً يحفّز على مواصلة الحرب

ويوضح بارنياع، في مقال نشرته الصحيفة ذاتها، اليوم، أن سياسات الحكومة الإسرائيلية تستفز البيت الأبيض، وأن الخطوة الأهم بالنسبة لبايدن رفض نتنياهو البحث بالسؤال "ماذا بعد”، ورفضه إشراك جهات فلسطينية في إدارة غزة.

ويمضي بارنياع في حملته: "نتنياهو لا يهمه شيء سوى مستقبله السياسي في اليوم التالي. لقد فشل نتنياهو كسيد الأمن، وفشلَ كسيد أمريكا، ربما ينجح كسيد.. لكن لا لفلسطين أبداً”. وسط تساؤلات عن مدى جدية وجدوى الموقف الأمريكي المعلن، يبقى الامتحان في التطبيق، فالإدارات الأمريكية المتعاقبة لم تترجم أقوالها النقدية لأفعال على الأرض، وحتى الآن يتواصل نزيف المدنيين الفلسطينيين داخل غزة وماكنة القتل الإسرائيلية أسرع بكثير من ماكنة الضغوط اللفظية الأمريكية البطيئة. وبين هذا وذاك، يصل غداً البلاد مستشار الأمن القومي الأمريكي، وربما يأتي حاملاً رسالة حول نهاية الحرب على غزة واليوم التالي”.

ولا شك أن هناك عوامل أخرى داخلية أيضاً تؤثّر على مستقبل الحرب على غزة، منها الأضرار والضغوط الاقتصادية الكبيرة، وضغوط النازحين الإسرائيليين من المناطق الحدودية في الشمال والجنوب، وربما الأهم هو الثمن الباهظ للقتال المستمر دون طائل، ودون مكسب إستراتيجي في الأفق، وتزايد عدد الإسرائيليين المطالبين باستعادة المخطوفين والأسرى قبل أي شيء آخر.

هناك من يرجح أن يكون الثمن العالي، المتمثل بمقتل عدد كبير من الجنود، سبباً يحفّز على مواصلة الحرب، كي لا تذهب الدماء سدى، بيد أن ارتفاع أعداد القتلى والجرحى، وفي شمال القطاع بعد 68 يوماً، أقرب لأن يؤثر في الاتجاه المعاكس، خاصة أن هناك تزايداً في تقديرات غير رسمية في إسرائيل، بأنها تسلّقت شجرة عالية، وأن أهدافها المعلنة غير قابلة للتحقيق.