وداعا يا مِلح الارض
المحامي عبد الكريم الكيلاني
اختفى عن فوق الأرض و اختار باطنها، بعد رحلة من المكابدة لم يحتملها قلبه ، وهو يرى الظلم و العذاب الذي يفعله الإنسان باخيه الإنسان ، وقد طال انتظار (المعذبين في الارض ) لساعة الخلاص من البغي و الجريمة تقترف ضد البراء الآدمية .
اختفى بغتة إذا ، و لعله احتفى وحده قبل ان يختفي ، و الأنين و الآهات تملأ كل ذرة في جسده الذي ذاب من شدة الالم. بلقيس، الام الرؤوم ، و إبراهيم الوالد الذي لم تره يستقبلانك ابا محمد .
الإيذان بالكتابة عنك ، جاء من عبد الرحمن بدوي الفيلسوف الذي عشقته حد الهيام ، وكتابه الذي أعرتني مؤخرا ( شخصيات قلقة في الإسلام ) ، فهذا شأنك تحتفظ بالنسخة الأخيرة من كل كتاب مفقود من الأسواق .
لم ينتظر الموت لنتكلم في أمسيات الصفاء ، عن شخصيات ( غير قلقلة)ً ، للمفكر العربي الهادي العلوي ، ثمة شخصيات لا تسعى وراء الشهرة او السمعه ، و لكن ملامح رحلتها في الحياة تعبر عن جوهر( الانسان الكامل)، و التأثير العميق في الوجدان ، اولئك ملح الارض فاذا فسد ملحها ماذا يُملحُه!!!
( بعض المغادرين ،ينقطع فيهم خيط الحياة بشكل مفاجئ فنصاب بالدهشة ، كلما ذكر نا أسماءهم مع متلازمة الرحيل بقولنا ، رحمه الله) … فبقاؤهم معنا ضرورة حتمية لا تفارقنا ، رغم غياب اجسادهم .
كانك كنت بهذه الجملة تحكي عن رحيلك المباغت .
،،،قض مضاجعنا ذلك (الكركي) اثناء تشكل وعينا الصوفي المبكر ، وهو يردد عبارات : ( الجزع الميتافيزيقي ) ( المعرفة المنغصة) ، ( الكهف مثقوب الاطراف )
، تحمل حسه الرهيف ما احتمل، ثم رزم حقيبة الافتقار لله الواحد القهار ، وتركنا نسرح في دهشة الرحيل .
أرستقراطي الفكرة و الموعظة، فقد اختار مكانا قصيا ، ونظرا بعيدا عن القشور ، ينشد اللب و الجوهر ، رغم وعورة المسلك . وعندما أراد أن يدون أرشيفه البحثي ، الفلسفي من الكتب و المجلدات و الموسوعات ، اختار كلمة واحدة ،(دهشة ). ذلك الاسم الذي اشهر به موقعه الإلكتروني ( لموسوعة من الكتب ) لكل من ينشد الوصول إلى الحقيقة .
قبل ان يغادر إلى موقع آخر استقر فيه مقامه مع عدد من الاخوة السائرين إلى الله و أشهروا الموقع باسم ( دار الايمان ).
بدات رحلته الجادة في البحث الحقيقة ، مع اهم الفلاسفة كسارتر ، و هيجل ،ونيتشة ، ثم صوب إلى الفلاسفة العرب المعاصرين ، عبد الرحمن بدوي ، و استقر به المقام في مدرسة الغزالي ، و ابن عربي . لا يخوض في مسائل العامة، لكنه أقرب ما يكون إلى أوجاعهم و آلامهم . يغترف من بحر عرفاني ليفهم العظة وراء العذاب وطريق الآلام ، لا يتمدد على الشواطي و اطراف الخلجان ، بل هو غواص لا يقنع من البحر إلا بالجمان ، و اللؤلؤ، يصطاده من الأعماق .
وبما انه أرستقراطي العقل ، كان ، يخشى على الحكمة غيورا عليها وكم ردد قول المسيح ، ( لا تعطوا القدس للكلاب و لا تطرحوا درركم امام الخنازير لئلا تدوسها بأقدامها ) أي جلَدٍ اكبر ، و قد رايت من يتآمرون على القدس ارضاء لشرذمة كلاب الارض يسلطون الخنازير الوحشية لتدوس اطهر البقاع .
الكوميديا السوداء ، مقطع مختزل من حياته اليومية ،الخمود تحت مجاري الأقدار ديدنه ونعته الذي لم يفارق نفسا ذائبة وجسدا نحيفا …
كنت انتظر لقاءا طويلا معك ، اتحدث عن (بيت حافل بالمجانين ) و فانتازيا الحياة عند نجيب محفوظ وهمنغواي ،وماركيز ، و اسماء عديدة ضيَّعتْها صدمة رحيلك الى دار الحق ولكن أوجاعك التي لم تبرح الجسد و النفس لم تمهلنا لذلك اللقاء ، وحسب امرء من الدنيا ،ان تكون ممره إلى الآخرة . طموحك العرفاني لم يقف عند البحث عن الحقيقة ، بل اردت العثور على الحقيقة و ابنتها ايضا وها انت ترحل من (دار الايمان ) إلى ( دار الحق )، لتعثر بلا ظنون، غيْرَ مُرتاب على الحقيقة و ابنتها، التي طال بحثك عنها . حسبك من الفانية قول ذو النون المصرى :
حسب المحبين في الدنيا بأن لهم من ربهم سببا يُدني إلى سبب، قوم جُسُومهم في الأرض سارية نعم ، وأرواحهم تختال في الحجب، لهفي على خلوة منه تسددني إذا تضرعت بالإشفاق والرغب يا رب يا رب أنت الله معتمدي متى أراك جهارا غير محتجب.
،خالص العزاء لأسرتك الصغيرة ابناؤك ، ملك ومحمد و مريم ، و شقيقك نصار وشقيقتك يارا .
اخوك عبدالحق ، كما اخترت له اسما ايها العاجل إلى دار الحق اخي يسار الحباشنة.