حقيقة الضياع في رواية "كويت بغداد عمَّان" لأُسَيد الحوتري
حقيقة الضياع في رواية "كويت بغداد عمَّان" لأُسَيد الحوتري
.
بقلم: د.صفا أحمد شريف
.
بدأ الراوي روايته يوم الأحد وانتهى يوم السبت، وكأن حياته أسبوعٌ واحدٌ فقط، في هذا الأسبوع عاش حالاتٍ من الضياع النفسي والفكري والجسدي. فالروايةُ عبارةٌ عن ثلاثة مشاهد، وثلاثة فصول، وكل فصل بعنوان مختلف، بدايةً بـ( سِفر التكوين) نهاية بـ(سِفر الخروج)
استحضر الراوي الماضي ليعيشَه، ويعيش ذكراه، فهذا الماضي مرتبطٌ بالكويت البلد الذي وُلِد فيه وتربى، لطالما تعلق الإنسان بطفولته وبلده الذي وُلد فيه، لكنَّ تعلُق الراوي بهما تعلقٌ مرضيٌ، فلقد اهدى روايتَه إلى ذلك الطفل الذي يُحتضر داخل الرواية، ولا يزالُ حيًا على أرض الكويت: عِشقُ الكاتب، والذي حاول من خلال روايته الحديثَ عن كل الأزمات التي مرت بها الكويتُ مع دول الجوار.
بدأ الراوي بالمشهد الأول وكأنه في مسرحية، هذه المسرحية هي حياتُه منذ الطفولة حتى الشباب، اعتمد الخيالَ للولوج إلى داخل الرواية، بينما نجدُه في الداخل قد اعتمد قصصًا وأحداثًا وتواريخَ حقيقة، أحداثٌ سُطرت وبطلُها واحد هو دولة الكويت، هذه الدولةُ التي تكرَّر اسمها من بين كل الأسماء، أخذت مِساحةً كبيرةً من الوصف: مدارسُها، أحداثُها، بطولاتُها ووقفَتُها مع أزمات جيرانها.
ظهرت الشخصيةُ الأولى في الرواية (سعيد) في المشهد الأول، وهي تعد الشخصية الرئيسة، بينما ظهرت الشخصية الثانية في المشهد الثاني ( سعد)، في حينَ تشاركتِ الشخصيةُ الرئيسة ( سعيد) والشخصية التي لا تقلُ أهمية عنها (سعد) المشهد ما قبل الأخير، فسعيد هو الذي كتب الرواية بعنوانِ ( هنا الكويت)، وسعد هو القارىء والناشر للرواية بعنوان ( كويت بغداد عمان) والكاتب للمشهد قبل الأخير، حيث ذهب إلى شخصية (أبو النور)، ليتداوى بالكتابة كما فعل سعيد، وكأن المرض الذي أصاب سعيدًا أصاب سعدًا، لدرجة أن هذا المرضَ جعله يكتب الكتابة نفسها، ويفكر التفكير نفسه، وكأن الراوي واحدٌ كتب بشخصيتين ( سعيد وسعد)، ومن ثمَ انهى روايته بالخيال كما بدأها، تيارٌ قويٌ شفط (أبو النور) الذي نصح بالتداوي بالقراءة، و(سعدًا) المستغربَ إلى الداخل. حاول (سعيد) من خلال سرده استعادة ذكرياته، ولملمتها من بعد تشتتٍ نفسي وفكري عاشهما، استعانَ بالقلم الصديق الصدوق ليوثق كلَ معلوماته، وكلَ ذكرى وإن كانت صغيرةً علَّها تساعده في التذكر، دخل (سِفر التكوين) باحثًا عن نفسه وتاريخه، ليخوض طريقًا طويلًا متعبًا، مستعينًا فيه بالله، مسهبًا في استخدام التناص من القرآن الكريم، ما لفتني غنى الذاكرة من الأمثال والأقوال المأثورة والشعبية والروايات والمسلسلات، وخُلوها من الذكريات الآدمية.
ذكرني سعيد في محض بحثه عن ذاكرته برواية ” رجال في الشمس”، حيث كلُ مفردةٍ تفتح ذاكرةً دفينةً في اللاوعي، فسعيدٌ الذي يحاول التذكر لفت نظره النُدبة التي في وجهه، فحاول عصرَ ذاكرته، فأخذته الذاكرة إلى الحادثة التي تعرض لها عند خالته فعلم من هو، وتذكر اسمه : سعيد حازم البحتري، وعندما سأل نفسه عن الشرق والغرب، تذكر أنه يسكن في شارع المغرب في الكويت، كلماتٌ لها أثرٌ دفينٌ في نفسه، وجديرٌ بالذكر أنها ذكرياتٌ عائدةٌ إلى طفولته المُبكرة في الكويت.
أكمل سعيد سرده في محاولة البحث عن ذاكرته، فمرةً نجده الراوي العليمَ المحايد، يسرد الأحداث ويطرح التساؤلات بهدف توجيه القارىء، ومحاولة تذكيره بأحداث مرت، كقوله عن نفسه: ” هل سيكون لي من اسمي نصيب؟ هذا ما سنكتشفه بالصفحات القادمة، بعون الله، فابقوا معنا..” (الحوتري 33)
ومرة أخرى يكون راويًا مشاركًا للحدث، يتحدث بضمير المخاطب لأنه البطل المشاركُ في عملية السرد، فيكشف عن دوره ، فمثلا يتحدث الراوي عن نفسه في دعم القضية الفلسطينية مستخدمُا الرمزَ الذي هو طريقة سيره إلى المدرسة مشيًا على الأقدام ومجاهدته للتعب، وإصراره على الوصول دون مساعدةٍ وهو ما يزال صغيرًا في الابتدائية، موقفٌ عظيمٌ يشير إلى أطفال فلسطين التي لا تعرفُ من الطفولة إلا اسمها، ويتحول إلى راوٍ عليم منقِّح عندما امتدح نفسَه وأصدقاءه على لسان صديقه، في رحلة مسيرتهم، وكيف أنَّه لم يتقبل قصة ضياع الوطن (فلسطين) وهو في الصف الثاني الابتدائي، حيث قال: ” هنيئا لك يا فلسطين عمالُقتُك الصغار، أطفال إن عز السلاحُ حموا حياضَك بالحجارة، وبكل ما تيسر” (٦٣).
لجأ الراوي إلى الحوار في عدة مواضع ليقوم بالإخبار عن المعلومات التاريخية الصحيحة ونشر الوعي والثقافة بما حدث في تلك الحِقبة من تاريخ الكويت، وتاريخ فلسطين، وتاريخ الأندلس…فمثلا نجده قد أخبرنا في حواره مع ناظر المدرسة عن تاريخَ الكويت وكيف نالت استقلالها، وغزوَ العراق لها، وكلها معلومات أحضرها من دكتوره "فيصل نصري".وحوارُه مع طارق وأحمد صديقيه، فقص لنا على لسان طارقٍ تاريخ الأندلس وخروج آخر ملوكها "أبو عبدِ الله الصغير”، وأعطانا معلوماتٍ عريقةً جدًا لقراءة ما بين السطور، وتحليلا كوميديا أسود، وأغنية شعبية كانت منتشرةً حينها، غناها المغاربةُ في أفراحهم غير مدركين أنَّها كانت للرثاء، وهي أغنية "الحرامي ما يموتشتي" (98).
وحوارُه مع والده، الذي استفاضَ في الكلام عن تاريخ فلسطين، بعد ما وضَّح سعيدٌ معلوماتٍ كثيرة، لكنه ترك والده يكمل ما بدأه عن تاريخ فلسطين وعملية احتلالها وموقف بقية الدول العربية تجاهها، وما حدث من مؤامراتٍ وخياناتٍ، ذاكرًا بعض الشخصيات التاريخية، نذكر منها: ” عمر علي البيرقدار” و "عبد الكريم قاسم" وموقِفَهما المشرف.
يخرج الراوي من القص والسرد، إلى ما بعد الحكاية لينتقد نفسه، ولمن يكتب؟ منتقدًا كيف لطفل في الثانية عشرة من عمره أن يروي للناظر تاريخ الكويت، ولطفل في الرابعة عشرة أن يروي تاريخ غرناطة، وغيره من الأحداث، يتسلل إليه اليأس من حال العرب وتفرقهم وتناحرهم، وضياع البوصلة لتحرير فلسطين، ورجوعه إلى نقطة الصفر عند تهجيره مرة أخرى من الكويت إلى الأردن، تهجير بعد تهجير، على أمل العودة، فهو من أصول فلسطينية، ولأنه ولد في الكويت كان أول المقصوفين معنويا ونفسيا عندما قصفت الكويت، فعاش حالة من الضياع وحاول تقمص شخصيات أبطال بعض الروايات لمعرفة تفكير بعض المجتمعات، كرواية "ساق المامبو" ورواية "فئران أمي حصة" لـسعود السنعوسي، وقد ذكرهما الراوي أكثر من مرة، بالإضافة إلى الكثير الكثير من الروايات، لكن للأسف لم يصل إلى بر الأمان، ورآى أنه طالما ظلت جهود العرب ضائعة فسيبقون متشتتين.
لم نعثر في الرواية على شخصية سلبية، بل على العكس حمَّل الراوي شخصيات روايته ثقافةً تاريخيةً عالية، وجعل شخصياته تتضافر فيما بينها لإتمام الحدث، حتى والدتُه كان لها دورٌ في الكلام على إنجازات الكويت المتقدمة والداعمة للقضية الفلسطينية، وصديقاه أحمد ناصر ود. فيصل تكلما على تاريخ العرب وأن فلسطين والأردن والعراق وبقية الدول كانت دولةً واحدةً، ولم ينس تحميل كل البلاء للاحتلال الذي قسَّم هذه الدول.
الزمن في الرواية كان متكسرًا وفيه عودةٌ إلى الماضي ونبشٌ فيه، لاكتشاف الحاضر واستشراف المستقبل، فهو لا يقتصر على زمن الحوادث المروية، فقد يتعداها لزمن التأثر بها والموقِف منها، أما المكانُ هو كما في العنوان : (الأردن والعراق والكويت)، لكنَّه من خلال استرجاع الزمن الماضي كان من الطبيعي استرجاعُ أمكنةٍ معينةٍ غير الأردُن والعراق وفلسطين، كالأندلس، وسورية، ولبنان، لم يخرجِ المكانُ عن الدول العربية.
اختم وأقول إنَّ الراوي لم يترك المجال للقارىء أن ينتقد أو يفكرَ أو حتى يحلل، فلقد كان الكاتبَ والرسام والناقد والمحلل، والناصح بقوله: "الاختلاف يفترض أن يؤدي إلى التعارف لا إلى الخلاف".