الشاعر الفلسطيني في تأبين حفيده الإسرائيلي
شاعر فلسطيني يؤبّن ويرثي جندياً إسرائيلياً ملفوفاً بالعلم ذي اللونين الأزرق والأبيض. هذه ليست قصيدة «جندي يحلم بالزنابق البيضاء» لمحمود درويش، ولا جواباً للغز البندقية في قصيدة «بين ريتا وعيوني بندقية»، إنها واقعة حدثت بالفعل منذ أيام، عندما وقف شاعرٌ (صادفتُه مرات في مواقع التواصل الاجتماعي من دون أن أحفظ عنه، أو تلفتني منه عبارة) أمام جثمانِ عزيزِه، حفيدِه القتيل، القاتل العائد محمّلاً من معارك غزة.
وقف سليمان دغش، وهذا هو اسم الشاعر، الذي سبق أن كرّمتْه وزارة الثقافة الفلسطينية في رام الله قبل أعوام، وطال ما قدّم نفسه شاعراً سفيراً لفلسطين وثقافتها، أمام جثمان الجندي العائد من الحرب الدموية على غزة، المحارب الذي اندفع إلى غزة من غير إكراه، متطوعاً متحمساً ككثيرين من أبناء القرى الدرزية التي تدفقت برايتيْ الدين و«الدولة»، بقوارير الماء والدم والدعم للمحاربين الجنود، تعزيزاً لميثاق الدم المعقود بين إسرائيل وتلك القرى.
لم ينجح ارتفاع عدد الضحايا إلى أكثر من 22722 شهيداً في إظهار أي حيرة أو تلعثم في أداء الشاعر منتصب القامة أمام تابوت الجندي الإسرائيلي
خاطب دغش تابوت حفيده الملفوف بالعلم الإسرائيلي، وخطابه محفوظ ومتداول (باعتزاز أحياناً) على مواقع التواصل الاجتماعي: «كيف لنا أن نصدق أنك رحلت عنا، ولم نتمكن من وداعك وتقبيل جبينك العالي قبل أن تفارقنا. كيف لي أن أستوعب، وأنت حفيدي الأول، أن أحمل نعشك الطاهر، وأن توارى الثرى قبلي».
وختم: «ألم يكن من العدالة أن أكون أنا مكانك، وأنت مكاني».
ورود اسم شاعر في تشييع «عدوه» يستفزّ المخيلات للذهاب إلى القصص والقصائد ونصوص الأدب المسرحي، وحتى الأساطير القديمة، فالجمهور هذه المرة أمام حالة فريدة: عدو الشاعر هو حفيده، ما يعني أن الشرائع، أرضية وسماوية، قد تلتمس له عذراً مخففاً، لو رقّ قلبه أو ضعف وبانت حيرته ومأساوية موقفه تجاه «العدو الحبيب».
صفة الشاعر قد تسبغ على الحادثة صبغة تراجيدية: شاعر متألم، تائه، حائر بين العاطفة والواجب (عاطفته تجاه حفيده القتيل، وواجبه إزاء وطنه وشعبه،.. القتيل أكثر، شعبه الأوسع من قبيلة). ومن السهل العثور على أرشيف كبير من الأدب والأفلام والنصوص المسرحية التي تجسد هذا الصراع.
لكن في الواقع ما يشغل الناس أكثر هو سمة «الفلسطيني في جنازة عدوه»، مع أن ذلك، على ما بدا من فيديو جنازة آل دغش نفسه، يحدث عند البعض مراراً منذ العام 1948، عام النكبة الفلسطينية، حيث اعتاد بعض أبناء طائفة الموحدين الدروز، وبعض البدو، الخدمة في الجيش الإسرائيلي، يمنحونه الدم، ويعطيهم الأمان، وهذا ما سمي بـ «ميثاق الدم».
وعلى ما يبدو لم يكفِ كل الدم المهدور لشراء مواطنة كاملة في «دولة» قررت (العام 2018) أنها مصمَّمة لليهود وحسب.
منذ بدء الحرب الأخيرة على قطاع غزة، وردت تقارير وصور وأخبار كثيرة وصريحة حول دعم قرى درزية بكل قوتها للجنود الإسرائيليين على جبهة غزة، إلا أن ذلك لم يثر الضجيج الذي أثاره ظهور شاعر في جنازة حفيده، التي حضرها زعيم الطائفة داخل الخط الأخضر، وألقى كلمة وصلّى، وأكد الانتماء لـ «الدولة».
الأخبار تقول إن الآلاف من أبناء القرى شيعوا، وبكوا، وترحّموا، ودبّجوا قصائد النعي، واستعادوا «بطولاتهم وبسالاتهم» في التطوع والانخراط في صفوف جيش الاحتلال.
بسالات ورثاءات لم تفلح نداءات أخوية سابقة (محاولات وليد جنبلاط مثلاً) في إحباطها، كما لم ينجح ارتفاع عدد الضحايا إلى أكثر من 22722 شهيداً و58 ألف إصابة في إظهار أي حيرة أو تلعثم في أداء الشاعر منتصب القامة أمام التابوت، وبين عدد كبير من رفاق التابوت، الجنود الإسرائيليين، المشيعين وحَمَلَة النعش.
يصعب تخيل الشاعر في موقع هاملت، المتردد الشكسبيري الأبدي، معفراً بالتراب بين القبور، ممسكاً بيده جمجمة، صائحاً بعبارة تراجيدية تهزّ الأكوان
مشهد لا يمكن أن يبعث على التعاطف، أو التماس العذر، إن لم نقل إنه يبعث حقاً على الغثيان.
لكن أين ذهبت المأساوية؟ أين هي تلك المسحة التراجيدية التي من المفترض أن يضفيها مأزق شاعر أمام عدوه الحفيد؟ في الواقع لا يوجد.
سببان بدّدا احتمالات هذه النظرة؛ الأول أن الشاعر لم يتردد في اندفاعه ورثائه، ولم يُنْقَل عنه أي محاولة لتبرير أو تفسير بعد ضجةٍ ولومٍ ورسائل. إنه معجب إلى الأخير بـ «جبين عدوه العالي»، على حد قوله في المرثية. يصعب تخيل الشاعر في موقع هاملت، المتردد الشكسبيري الأبدي، معفراً بالتراب بين القبور، ممسكاً بيده جمجمة، صائحاً بعبارة تراجيدية تهزّ الأكوان.
أبداً. كل ما هنالك أن الشاعر سيتفجّع بالقول: ألم يكن من العدل أن أكون مكانك!
السبب الثاني أن العودة إلى كلام الشاعر وقصائده لا توفر فرصةً العثور على شعر. إنه شاعر مزعوم وحسب، صنعتْه المحسوبيات وفساد المؤسسات الثقافية، التي تصنّع شعراء وأدباء وفلاسفة، وتفبرك لهم الألقاب والأوسمة والجوائز والتكريمات، من دون أن يستطيع قادة المؤسسات أنفسهم الإتيان ببيت شعر واحد لهم، أو عبارة عليها القيمة.
يصعب أن تجتمع التراجيديا مع الكلام الرديء. لا يمكن أن نتخيل أوديب، أو فيدْر، أو عطيل، أو ماكبث، أو إلكترا يروون مآسيهم بكلام تافه، أو بنص مليء بأخطاء لغوية مثلاً.
لذلك، فإن التصنيف اللائق لحالة الشاعر المزعوم سليمان دغش أمام تابوت عدوّه القاتل ليس التراجيديا، بل: المسخرة.
راشد عيسى
* كاتب من أسرة تحرير «القدس العربي»