متاهات المعرفة والتاريخ في رواية «كور بابل»
تريد هذه المقالة أن تقف عند رواية «كور بابل» الصادرة عن دار الأدهم في القاهرة 2023، للروائي العراقي عباس خلف علي، لتكون دليلا للمتلقي وهو يعاين نصّا سرديّا جديدا مختلفا منطلقة من السؤال: أهي رواية؟ أم نصّ روائي، أم ماذا؟ بدءا لا بد من التنبيه إلى أن الغلاف يحيل على (رواية) لكن الإحالة سرعان ما تتغاير عند الغلاف الداخلي لتكون (رواية نصّ) فهل الإحالة الأولى محض إشارة عابرة؟ أم أن الإحالة الثانية إشارة أجناسيّة أراد الروائيّ من خلالها الدخول إلى الشكل الجديد للرواية أعني، رواية النص، آخذا المتلقي من فضاء السرد إلى نصّه؟
تنتمي «كور بابل» إلى الكتابة الجديدة؛ تلك التي تتوازى في متنها أطروحات ما بعد الحداثة، ممثلة في العناية بالكتابة بوصفها متنا يستمد نسقه من الواقع الذي ينفتح على تعدديّة الحياة بما تحمل من إشارات دالّة، وتناقضات، وأسئلة تبحث عن إجابات، فضلا عن اعتمادها على التخيّل بما يمتلك من قوّة لها إجراءاتها النسقيّة التي تعمل بوساطة (الخيال) على إنتاج الأدب، وهذا ما وجدته في «كور بابل» نصّ ذاكرة المدينة العراقيّة (كربلاء) التي خاضت الكتابة من خلالها رحلة في متاهات التاريخ، والمعرفة، والأشخاص، فالنصّ – حسب الرواية – وسيلة تعرّف غير خاضع لبرهان، أو دليل سرديّ بل هو تجربة تعكس فاعليّة الكتابة أثناء التحامها بالأثر، ولهذا كان قد تقاطع تماما مع شكل الرواية التقليدية في جانبين مهمين:
الأول: العتبات
تُبنى الرواية من عتبات؛ هي مواضع التشكّل السردي الذي يبدأ من عتبة أولى لينتهي عند عتبة أخيرة، وقد تألفت «كور بابل» من الغلاف الذي يحيل في شكله الإيقوني على بوابة بابل الأثريّة في أكثر من ثلاثة أرباع الحيّز الذي شغله، ليترك أقل الربع لعتبات العنوان، والعنوان الموازي، واسم الروائيّ، وأيقونة دار النشر، مع ملاحظة أن سرد ما وراء الحداثة جعل من العنوان الموازي (الحلم العائد من المراعي) يقفز فوق العنوان الرئيسي «كور بابل» في مغايرة وقفت ضد التماثل المعتاد بهدف توليد دلالة تغاير ليس في الشكل، إنما في المضمون الذي يحيل على توصيف مبتدع أراد من خلال السرد، تقديم وظيفة التفسير التي لحقت العنوان الموازي على العنوان الرئيسي، الذي أحال على (الكور)؛ أي البناء المخروطي الذي يستعمل في إنتاج اللَّبن، وتحويله إلى طابوق اشتهرت به مدينة كربلاء، لكن النسق السابق في التقديم والتأخير، سرعان ما تغاير في الغلاف الداخلي الذي تقدّم فيه العنوان على العنوان الموازي في ارتداد شكلي واضح، ثمّ نقف عند عتبة الإشارة الأجناسيّة (رواية نص) ليكون اسم الروائي في نهاية الغلاف، وكأنّ السرد أراد بهذا التغاير الجديد الإحالة الدالة على أن قرى (الكور) انفتحت على حلم عائد من مراعيها في إشارة كنائيّة إلى ما كان الحال عليه.
شُغل نصّ الرواية بالاستهلالات التي كان أولها (استهلال النص) حاول السارد من خلاله أن ينتج خطابا تعريفيّا دار حول رواية النصّ التي يريد أن ينتجها، معوّلا على ثقافته في الإحالة والتعريف، وقد وضع ذلك الاستهلال، بعد العنوان الداخلي ليكون بمنزلة المقدمّة للنص، وهو ليس كذلك، بهدف قراءة الرواية من خلال مضامين الاستهلال نفسها؛ تلك التي تولّت تحديد الأهمية الفكريّة لما في «كور بابل» من سرد، ولواحق، ففي بدء الاستهلال عرّفَ النصَّ بوصفه وسيلة تعرّف غير خاضع لبرهان أو دليل، وكأنه شعر بحاجة المتلقي إلى تعريف رواية النصّ، وهي تعكس فاعلية الكتابة أثناء التحامها بالواقع أو التخيّل، ثم بادر إلى تكثيف أحداث الرواية، قبل أن يتوغّل المتلقي في كشفها، مبرزا أهميّة دوالها، ومداليلها، وهما يجوبان أرض الكهنة في بابل الأولى، ففي ذلك الجزء من الاستهلال كمن البعد التأويلي للميثاق الروائي، الذي دوّنه تخيّل السارد وهو يمارس أعلى درجات الإيهام في وجه المتلقي، بقصد وقوفه عند حقيقة ما في الاستهلال (كلّ الأحداث في النصّ هي اعتراف بدال الكهنة الذين أغفلوا صلابة الرقيم، وتماسه الأبدي) من خلال كشف الحقيقة؛ تلك التي تنبئ بها الألواح البابليّة وهي تتشابه، والنص، والمؤلّف بالتناسخ، بينما تتشابه وعامة الناس بالتلقي.
هذا ما بشّر به الاستهلال دون أن ينسى أن فصول الرواية التي لم تكن فصولا نسجتها؛ بمعنى حبكتها، وخاطتها (أسبارنيت) البابليّة: الأم التي امتزجت شخصيتها ما بين الأسطورة، والواقع، والحلم، وهي تمثّل أعلى مراحل التخيّل، دون أن يدع المتلقي يمارس شهوة تلقيه للنص وحده، فعمد إلى إيجاد معجم صغير سمّاه (تعريفات في خريطة المدونة) بثّ فيه تعريفات لأسماء أعلام قديمة وردت في المتن، مساهمة منه في الفهم، ومن ثمّ التلقي، فهذا المعجم على قلّة موادّه شكّل ذخيرة ذهنيّة أحالت على خصوصيّة فضاء الرواية، الذي تراكمت فيه أسماء، ومسمّيات ذات وظيفة خاصّة بمكان الرواية: النص وزمانه، وبهذا يكون السرد قد كسر شكل الانموذج الروائي، واستبدله بأنموذج ما بعد حداثي رضي به المتلقي. واستبدل الروائي فصول نصّه بلوحات خمس كلّ لوحة بمنزلة الفصل للرواية، وعندي أن هذا الاستبدال أحال على قصديّة بنائيّة، فاللوحة في المتن تنفتح على ألواح قديمة تتشابه سرديّا مع المؤلف والمتلقي، وأحداث أخرى، وسياقات، ومناظر شتّى، وحكايات؛ بمعنى آخر؛ اللوحة سرد دمج بين الزمان والمكان، وقد قدر للّوحات «كور بابل» أن تنفتح على عنوان لها، فضلا عن أكثر من عتبة، وحكاية، وأن تتعلّق بأكثر من إحالة مكانيّة لم أجدها في الروايات التقليدية.
كانت اللوحة الأولى بعنوان نقديّ طويل: (قراءة العنوان: رسم المتخيّل في تقاطعات الجسد… التجربة تبدأ من التمرين على صور الأحلام) ثمّ أعقبه بعنوان مواز وضع بين متوازيين (سياحة العبارة في حضرة الرقيم، التاريخ المجهول وقهقهة التراب) ثمّ وضع متعمّدا عنوانا آخر موازيا اتّسم بالإيجاز (استدراك اللحظة) أخذ منه صفحتين ليكرّر عنوانا سابقا (التاريخ المجهول وقهقهة التراب) ليكون بمنزلة الاستفتاح للوحة، هذه العنوانات الداخليّة صاحبت متن النص كلّه، ورافقت اللوحة الأولى لتعطي فكرة عن طبيعتها، وما تريد القول في ظلّ التجريب الشكلي، والمضموني الذي عرفت به (كور بابل) وهي تفكّك أطر ما وراء السرد بوساطة التأويل الذي أعطى فكرة عن دلالتها بوصفها مقدّمات، وتقانات مائزة للّوحة نفسها. انفتحت اللوحة الأولى سرديّا على تقانة الاسترجاع؛ استرجاع صورة (نهلة) وهي تأخذ السارد إلى مكان أليف (تل الحمام) لتحضر بابل وهي تحترق، وتحضر (مونيكا) من الأمس القريب مع مزيد من الأمكنة التاريخيّة، والأسطوريّة، والتناصّات، وحضور الشخصيّات القديمة والمعاصرة، والأسئلة التي لا إجابة لها، واللوحات العالمية، والأوهام؛ تلك التي جعلت اللوحة الأولى صعبة التلخيص.
وكانت اللوحة الثانية بعنوان (ما جاء في منمنمة عابر سبيل عن وقائع النسيان) تلاها العنوان الموازي (يقول العراف: ليس لي بحر لكي أخون الصحارى) بتوقيع عابر سبيل لا شأن له بالسارد، فقد أوجز نصّ الرواية بالإتيان بهذه الإضاءات العتباتيّة، وهي تفتح اللوحة على سرد يعود إلى عهود (أسبارنيت) المرأة الحلم، ثم الدخول في الحاضر بما يملك من مفارقات وتناقضات.
في اللوحة الثالثة حضر العنوان الموازي (في مساحة المدن أفق يضيء) كي يكون بمنزلة العنوان الرئيس للّوحة التي ارتضى السرد أن يحلّ ما كان هامشا مكان المركز، ويغيبه في ظلّ الحضور الكنائي للهامش نفسه، ولم يكن تغيير نمط التفكير بالهامش (العنوان الموازي) سهلا، فقد جاء بعد سلسلة من المحاولات التي أرادت التمرّد على المركز (العنوان الرئيس) وكشف ثقافته، فقد نوقشت الأولويّات، مسبوقة بالنوايا، فكان لا بد أن يتحرّر الهامش من الأدوات التي اتّخذها المركز أساسا له، تلك التي جعلت التاريخ نفسه إقامة للأقوياء، وإقصاءً متعمّدا للضعيف؛ بمعنى أن يتحرّر من الأساس الفلسفي والمعرفي والرؤيوي للمركز كلّه، ثمّ ظهر عنوان فرعيّ للوحة على رأس استهلالها (محاورة اللحظة لالتقاط ذاكرة القنطرة) مع حضور عنوان صغير في متنها (سبع القنطرة) مستعارا من الثقافة الشعبيّة التي رافقت استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) حاور من خلاله الذاكرة الجمعيّة، وهو يرى مشهد المدينة الدامي أبدا، ثمّ جاءت اللوحة بملحق عنوانه (نبوءة حلم) هو أحد مظاهر استكمال شكل اللوحة، له وظيفة توصيل الحالة التي يريد السارد إيصالها بشكل أكثر عمقا عن طريق ملاحظة حلم أسبارنيت الذي روته إلى والدها.
وجُعلت اللوحة الرابعة بعنوان: (لخوذة الثلج وجوه وأقنعة) بعنوان مواز مضغوط بين خطين: (إن شبح الحرب مثل ملكوت سري) وقد انفتحت على عوالم الحرب التي عاشها السرد في الثمانينيّات، بما فيها من عوالم سرياليّة، واسترجاعات التاريخ القديم، فضلا عن تحولات القرية الكونيّة التي نعيش في ظلّها، واشتات من الذكريات: سقوط خط بارليف، والخمير الحمر، والتريكا، وروان أراد، وغيرها من أعلام العصر الحديث، وتحولات الروح إلى مادة، والتجارب التي نحسبها عبثيّة.
أمّا اللوحة الأخيرة الخامسة (قراءة في حلم النص) فقد كانت بعنوان مواز وضع بين متوازيين: (بعد أن نلت من قصاص الجبل ما توالد من أضغاث أحلام حملتني دهرا) وهي تنفتح على أجواء المدن التي تحمل وصية (أسبارنيت) ووجود المتاهة، وقراءة كتاب الأمواج، لتعود (نهلة العساف) ثانية إلى واجهة السرد، وهي والسارد بانتظار (أنانا) وهما يعيشان الأوهام والاحلام معا، في ظلّ حضور (فليني) و(طائر الفينق) و(نيرودا) و(غوكو) وحضور (كهف جبل الثلج).
الآخر: متن ما وراء السرد:
أتاحت الرواية من خلال البناء النصي الماورائي أن تقدّم شخصيّات تنتمي بشكل واضح إلى فئة الفنانين مثل، رامبرانت الفنان الهولندي الذي حجز الدائنون بيته قبل أن يبيع لوحته الشهيرة: الغزال، والطائر الجريح، فضلا عن النحات اليوناني (فيدياس) و(فليني) و(رحّالون) جابوا أصقاع العالم، فهؤلاء وغيرهم كانوا جزءا من الفصل المتعمد بين التخيّلي، والواقعي من خلال السرد، وتأثيره في بناء الرواية: النص، فهذا الحضور يضع المؤلّف الروائيّ في تماس مع الماضي عند الاسترجاعات التي تتصل بالتلقي المعاصر وهي تقدّم جملة من الرؤى التي تحمل ما تريد الرواية الإفصاح عنه.
وحضر ما وراء السرد في (الرواية: النص) من خلال التاريخ، أو شخصيّاته مثل: بهنام أبو الصوف، و(أسبارنيت) والاسم الأسطوري لنهري (الفرات) و(دجلة) و(الراعي) في الأسطورة العراقية، و(طائر نوح) والمؤرخ الإغريقي (استيساس) الذي زار بابل، وكتب عن الجنائن المعلقة، و(أقليدس) و(فيثاغورس) و(أنشتاين) و(كريمر) وآخرين كثر كانوا وجها من وجوه الاستعارات التاريخية التي دخلت النص من نافذة الما وراء.
لقد قدّم ما وراء الرواية لنصّ «كور بابل» طبقات متراكمة من المعرفة التاريخيّة والحياتيّة والفنيّة، التي تداخلت مع بعضها لتشكّل نسيج النصّ المنفلت من حدود التجنيس التقليدي، آخذة إيّاه إلى عوالم التجريب، وهي تخوض مغامرة الكتابة التي تدفع بمتلقيها نحو تأويليّة تجوب عوالم السرد المعاصر واقفة عند حدود النص وتحوّلاته.
فاضل التميمي
ناقد وأكاديمي من العراق