مطبخ غزّة والكعكة المعادية للسامية
الأمريكية لوريل هرمان مدرّبة طبخ وأستاذة في معهد الطامحين إلى مهنة الـ»شيف»، وتمارس تقنية خاصة تُعرف باسم «السرد المطبخي»، كما تزعم التخصص في الطبخ الطبي. ورغم أنها تقيم في ريشموند، فرجينيا، فإنّ معظم كتاباتها في هذه المواضيع يحتضنها موقع «تايمز أوف إسرائيل»، حيث تواظب على مدوّنة نشطة لا تقتصر مواضيعها على الطبخ وإنما تتناول السياسة أيضاً. وهي، كما كتبت في أحد تعليقاتها، «تزداد يهودية كلّ يوم» منذ 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023.
وللمرء ألا يُفاجأ بهذا الطراز من «الازدياد»، ليس لأنه كان ويظلّ ظاهرة مزمنة وقرينة بملايين اليهود في العالم، كلما اتصل الأمر بدولة الاحتلال تحديداً، فحسب؛ بل كذلك لأنّ خيارات كهذه يمكن أن تندرج في خانة ما هو شخصي على أصعدة الرأي والموقف والقناعة. لولا، بالطبع، أنّ الشطط الفادح والصريح والفاضح على أكثر من نحو يمكن أن يطبع إيقاعات الازدياد فتنقلب إلى طراز من الإنقاص تجاه الآخر والانتقاص من السوية الدنيا للحقوق والمساواة والتكافؤ؛ فكيف إذا اتصل ذلك، وسواه، بتأويلات تقلب الحقائق الأبسط إلى ما ليس فيها البتة، ولا تجد غضاضة في جعل المنطق السليم يسير رأساً على عقب.
على سبيل المثال، وتحت عنوان «كعك بالأسود والأبيض مجاز مطبخي للعداء للسامية»، تساجل هرمان بأنّ الطعام مجاز في نظرها، وأنّ كعكة خُبزت كي تظهر بألوان الأبيض والأسود، أو حتى الرمادي، هي استعارة تتوخى العداء للسامية. تخيّلْ يا رعاك الله، حسب العبارة التي كانت أثيرة لدى محمد توفيق البجيرمي الإعلامي وأستاذ الأدب الإنكليزي الفلسطيني – السوري الراحل، لأنّ كعكة كهذه على صلة مباشرة بما خبزت «حماس» وتخبز في قطاع غزّة ومستوطنات الغلاف، حيث «مكوّنات الخليط الأكثر أذى، مثل المعلومات المضللِّة، والأكاذيب، والتهيئة، والكلمة الطنانة مثل الاستيطان والإبادة وسردية القاهر والاحتلال والتطهير العرقي. أي: الخلطة الأكثر اكتمالاً لمعاداة السامية».
لا جديد، بالطبع، في الحروب الشعواء التي لم تكفّ الأدبيات الصهيونية عن خوضها ضدّ المطبخ الفلسطيني، ضمن حملات لا تقلّ شراسة ضدّ مكوّنات الحياة الفلسطينية جمعاء؛ اليومية المعيشية منها والمستدامة التراثية على حدّ سواء، بصدد الآداب والفنون والفولكلور والأنثروبولوجيا والأركيولوجيا، أسوة بالزيتون والزعتر والفرفحينة والطيون، فضلاً عن الورود والزهور والنباتات كافة. مع ذلك، ثمة أطوار من السعار في إدارة تلك المعارك، لا تبدأ من الإنكار والسعي إلى الاستئصال والاجتثاث، ولا تنتهي عند السرقة الصريحة وانتحال تاريخ هذا المكوّن أو ذاك.
وكان أمييل ألكالاي، الكاتب اليهودي أستاذ ثقافة الشرق الأوسط في كوينز كوليج، نيويورك، ومؤلف الكتاب المميز «بعد اليهود والعرب: إعادة صناعة ثقافة المشرق»، 1992؛ قد ناقش دلالات هوس الإسرائيليين بمصادرة الفلافل مثلاً، ثمّ البرتقال اليافوي والزعتر، فأدرجه في سياق هوس استيطان الأرض إياها. وعلى سيرة الفلافل، سعت الأدبيات المطبخية الصهيونية إلى الاستيلاء على القرص الصغير الشهي، والزعم بأنه وجبة عريقة في «المطبخ» الإسرائيلي؛ فلم نعدم أغنية إسرائيلية شعبية تعود إلى أواخر خمسينيات القرن الماضي، عنوانها «ونحن عندنا الفلافل»، يقول أحد مقاطعها: «جرت العادة أن يقبّل اليهودي الأرض شاكراً عندما يصل إلى إسرائيل. والآن، حالماً ينزل من الطائرة، فإنه يتناول الفلافل».
في المقابل، لا تكترث ليلى الحداد وماغي شميت، في كتابهما «مطبخ غزّة: رحلة طهي فلسطينية»، 2016، بسَوْق الحجج حول عراقة المطبخ الفلسطيني عموماً، والغزاوي خصوصاً؛ لأنّ الأصل في هذا الطراز من التأليف هو التشديد على الثقافة الأعمق قبل الوصفة الأشطر، ولأنّ الطعام في نهاية المطاف هو الوجهة الأصدق تعبيراً عن شخصية أهل غزّة وكيف يقولون عند كلّ طبخة: فلنأكل هذه لأننا فلسطينيون، أو فلنأكل تلك كي نكون فلسطينيين أكثر اكتمالاً، أو فلتكن هذه أو تلك بمثابة احتفاء بذاكرة تؤكد أننا ما نحن عليه وما نكون؛ حسب تشخيصات نانسي جنكنز في مقدّمتها البديعة للكتاب.
فإذا كانت كعكة بالأسود والأبيض مجازاً عن العداء للسامية في ناظر هرمان، فما الذي يمكن أن تقوله عن الطحينة الحمراء التي ينفرد بها المطبخ الغزاوي؛ ليس من باب الابتكار أو مخالفة اللون الآخر الشائع للطحينة البيضاء، بل ببساطة لأنّ اضطرار أهل القطاع إلى تهريب السمسم يمرّ عبر الأنفاق وما تنطوي عليه شروط التخزين من عقابيل! وهكذا يصبح إنتاج هذه المادة وتوفيرها بمثابة «لعبة صراعية» بين قوات الاحتلال الإسرائيلي من جهة، والشعب ذاته الذي اخترع الطحينة ورعاها وطوّرها وتماهى معها ويُجبر على استبدالها، من جهة ثانية. وتلك سيرورة يمكن أن تسفر عن طراز خاصّ من انقراض النوع، كما حين تتبدّل السماقية بوصفها طبقاً رئيسياً في القطاع، عند الاضطرار إلى استخدام حبوب السمسم الحمراء.
بذلك، فإنّ جندي الاحتلال الإسرائيلي الذي يرتكب المجازر، ويهدم البيوت، ويجرف الأراضي، ويقطع أشجار الزيتون المعمّرة، ويطلق النار بدم بارد على الشيوخ والنساء والأطفال العزل، ويمارس التطهير العرقي والإبادة الجماعية… يجد له ظهيراً عند هرمان وأمثالها من مغتصبي أطباق الحمّص والفلافل والشكشوكة، ومنظّري ألوان الكعك… المعادي للسامية!
صبحي حديدي