الأسيرة دعاء الجيوسي... من أسوار الجامعة إلى معتقلات الاحتلال الإسرائيلي.


- أدخلوني هذا السرداب ومن يومها لم أرى له باب.
- كان الصمت جداري... عالمي... ومداري... حال ليلي ونهاري.
- وبعد كلّ هذا الخذلان وفيض الأحزان بلعت لساني.
- أطلقت النداء... سئمت الانتظار والصحف
- سألت عنهم فقيل كلهم ماتوا وقضوا على أبواب المدينة وقُبروا في الخنادق٠٠ 
المقدمة: 
بين أيدينا نصّ للأسيرة دعاء الجيوسي، الكلمة التي أقنعتنا واقتنعنا بما روته عن معاناتها في سجون الاحتلال الإسرائيلي، بأسلوب متميّز لا يشبه بأسلوبها إلّا من دخل أسوار السجن، لتفتح من هذه الأسوار بوابة الحياة.
ولهذا حين نحاول قراءة نصّها بشقيه: الفقد، فقد الحرية ووجدان الإنسان.
نجحت الجيوسي في كتابة سرد بسيط ووصف لفلسطين، وكأنّنا أمام كاميرا تعرف من أين تلتقط الصورة، التي تحمل في طيّاتها مشهدا دراميا يحاكي الإنسان الذي يعرف قيمة الحياة.
تساءلت ونحن نحاورها عن بعد، هل كانت تكتب لورد الحرية؟ أو تنشأ علاقة بينها وبين وطنها؛ لم نجد إجابة مقنعة، أو لنقل معقولة. كلّ ما اقتنعنا به وجودها معنا في هذا الحوار.
وحاولنا ارتكاب الخطيئة مرّة ثانية وسألنا أنفسنا هل نحن واحدان؟ أم إنّنا آخر الشهود في الزمان الذي يختتم روائح وألوان العذاب.
تجيب دعاء الجيوسي في حوارنا معها على تساؤلنا نثرًا:
حاورها سليم النجار- غصون غانم.

دعاء الجيوسي 
بعد أن أفرغ الجلاّد غيظه وصَبّ على الجسد المشبوح حِقد القرون ظنّ أنه انتقم من نسل سرجون فعَلَّق السوط على كتفه وغادر...
تململت السلسلة من على الجدار 
تَنهّد عامود الشبح وتَمتَم، أما لهذا الليل من صبح؟
في الزاوية حدثت جلبة مخنوقة... ثمّ صَدح صوتٌ كان نزلاء السرداب يظنّون صاحبه أبكماً...
ليل طويل... حمل ثقيل... دماء تجري... أعمار تذوي... جدران متطاولة... سجون وشجون... وأرض قَدرها أنْ تواجه كلّ ما في العالم من جنون...
تنهد العامود.... تبسمت السلسلة...فتح المشبوح عينيه هتف والدم يقطر من ظهره وبنات يديه....
ها أخيراً تحدثت... وزاويتك غادرت كُنا نظنك مُتمترساً فيها كالجبال هذا دورك... أنت الآن سامرنا قُل وقَصِّر الليالي الطوال.
قال الكرسي صغير الحجم... يا دام مجدكم وُكسر بالعزّ قيدكم... يا أبناء البلاد... يا خير الأجناد...
أولاً اسمحوا لي أنْ أرحِّب بالسلسلة هذي التي حملت هويتنا حديثاً... وتتعلّم لغتنا حثيثاً...
ثُم دعوني أضيف... يا ضحايا زمننا المخيف وواقع ساستنا السخيف...
إنّي كُرسي كنت فيما مضى بٌني اللون...
منصوباً على شاطئ يافا ليس بيني وبين الماء بون...
كنت ملجاْ العشّاق، في أحضاني يبثّون الأشواق... شهدت قصص غرام... حفظت قصائد وغزليات... غيرة وفراق ثم لقاء وما بينهما من عتاب وبكائيات...
في أيام حالكة السواد... وحين حطّت يد المنايا على البلاد... في عقد الفجائع حيث العدل ضائع... سقطت مدينتي... فقدت موطأ قدمي وظيفتي... جدارتي بالحياة وأهليتي...
مكثت على الشاطئ بكيت يافا العروس... في أيام تداخل أسودها بأبيضها لا أقمار ولا شموس...
كنت قُرب الماء وحيداً لم يقصدني عاشق... أحصي من مرّوا عليّ يتوشحون البنادق...
سألت عنهم فقيل كلّهم ماتوا قضوا على أبواب المدينة وقُبروا في الخنادق...
كان بيني وبين بحار من الهند سابق عهد يزورني إنْ حط بالميناء... أعطيه جلوساً مُريحاً وطيب هواء...
فيقصّ عليَّ أخبار مغامراته في الموانئ ويعترف كلّ مرّة بأنّ له في كلّ مَرسى حسناء...
والبحارة يا رفاق القيد كُرماء بالفطرة؛ سخاؤهم أورثهم في كلّ الدنيا سِيَرا عطرة ...
وعدني صديقي البحار ذات يوم بأنْ يأخذني من مكاني على الشاطئ فأجوب معه في رحلة بحرية كلّ المرافئ...
انتظرته وقلت علّه يأتي فهذا وقت الوفاء من صديق وفي أيامي السوداء أنا بحاجة لرفيق...
لم يأتِ البحار وقالوا إنّ الميناء مُغلقة... وأنّ السُفن لم تعدْ تأتينا، فأحوالنا هنُا مضطربة مقلقلة...
أوائل الخمسينات وحين أصاب المدينة ما أصاباها من لَأْوَاءَ وباتت مرتعاً للأوباء... لم أعد أفرِّق بين ملائكة الرحمة الشُقر وشياطين العذاب الصُفر...
...فكلّهن بلا حياء
حين يَحُلّ المساء تَخرج رحاب من تحت جلودهن ويحدث في العلن ما كان في الخفاء...
قصدني ذكورٌ وإناثٌ... تعاطوا أمامي الموبقات... الفضائح الصاعقات... فقلت: أيا ربّ بعد طيب ملقى العشاق أصبح شاهداً على ساقطين وساقطات...
المهمّ أنّهم وعندما قرّروا تغيير معالم الساحل ركلني أحدهم بقدمه... بصق وشتم وقال: انتزعوه... امسخوه.... اسحقوه... خذوه... غيِّبوه.
حملني مختلطو الأنساب أولئك الذين لا يعرف واحدهم أباه على وجه الدّقة... وألقوني هنا... يأكلني الغيظ وتدميني الحرقة...
في البدء قيّدوا إليّ كلب حراسة فظّ ليس كأوفياء كنعان الذين أعرفهم... ولا حتّى كالذئاب الذين كنت على الشاطئ في ليالي الشتاء أصدفهم...
بعد إهمال طال... وجيرة كلب آبق لم تكن لتخطر لي على بال...
أدخلوني إلى هذا السرداب، ومن يومها لم أرَ له بابا... وبِتُّ شاهداً على من يُسام في دهاليزه سوء العذاب.
أنا يا رفاق القيد لست عاجز اللسان... ولا رخو الجنان... ولكن ومُذ حطّ على مدينتي سوء الطالع... لُذت بصمتي وقلت لم يعد في الدنيا سامع...
أأرض كنعان... مثيلة الجنان... تصير نهباً لكل طامع...؟
كان الصمت جداري وعالمي ومداري..... حال ليلي ونهاري...
حتى سمعت حديثكم فشغفت الآذان وقُلت أشارك عساي أكتب سطراً... في ملحمة تدور حولي...
يا إخوة السلاح... يا زهر الجراح... يا نور الصباح... يا صوت حريتنا الصداح... يا عصف وقصف وغضب الرياح...
أيّها القادمون من لجّة البحر... أيّها الزاحفون فوق الجمر... يا هدير القهر......يا أمواج العابرين وأفواج الثائرين.....
إنّي رفيق الأسرى... نزف جراحهم... العزّ يخطو في ساحهم... أنا راوي السجون...
أعطوني الآذان... وأصغوا إليً:
إنّي في محبسي منذ سنين... أعتق الأحزان... أجترح من المقصلة سنبلة... وأستولد من القمح صاعق وقنبلة...
آلاف الأرواح إليّ قُيدت...
شباب كالصواعق...
صبايا هُنَّ روح الخنادق...
ألسنة صمتت فصانت الأسرار...
شفاه تمزقت وهي تنأى بنفسها عن ذلة الاعتراف والعار...
فوق حوافي تكوّمت أيادي منزوعة الأظافر...
ولحوم أنضجتها النار وأُعُملت فيها الخناجر...
في مكاني هذا بكيت آلام من ترفّعوا عن البكاء...
أطلقت النّداء....
سئمت انتظار الزحف واللقاء....
لم يُجبني أقنان ولا عتقاء... خذلني أهل مكة الطلقاء...
من أتقنوا تدوير الزوايا لأجل البغايا... ملوك التطبيع... من دنسوا ثالوثنا الأقدس تسطيحاً وتربيعا.
أولئك الذين يرَون الكون فلكا يدور حول بطونهم وما أسفلها...
يلوون عُنق الدين واليقين... الزيتون والتين... ويَعُقّون من حملها...
تصوروا أنّ بلاد النبي... باتت اليوم سبيا...
وأنّ دهاقنتها اختلفوا حول أحكام الطعام والمضغ... وحرمة التبغ...
وطهارة ريق الكلب بعد الولغ...
تجادلوا حول زواج القاصرات والتمتّع والتُبضُع
اختلفوا حو نكاح المسيار والشغار...
ردّوا على جاليلو نظرية كروية الأرض وخطوط الطول ودوائر العرض... كلّ هذا... ولم تكتشف الأفئدة الورعة حديثا شريفا ولا آية ولا نصوصا حول حرمة مصافحة ومسافحة اللصوص...
وبعد كلّ هذا الخذلان وفيض الأحزان بلعت اللسان...
وها أنتم تخرجونه من جوفي ألاّ تبّاً لكم من صحب وخلان....
وقبل أنْ يسترسل كرسينا العتيق في سيل شتائمه... أو يروي كلّ آلامه وهزائمه... سمع الصَحبُ اصطكاك المفاتيح... بات الجلاد يهرع تجاههم كمن أسلم ساقيه للريح...
بدا برماً... وهذا وقت سحق العظم للترويح...
زمجر الجلاد عواء ونباحا... دَق عظم... ذرْوُ لحم في الرياح وأحكمت دائرة الألم طريقاً يُفضي للصباح.