الأسيرة ميس أبوغوش... -قام الاحتلال بعزلي طيلة فترة التحقيق.

 كانت الزيارة الأولى التي قام بها أهلي إلى السجن صعبة جدّا.
- حاول الغراب أنْ يجرِّدنا من إنسانيتنا.
- من أصعب اللحظات فراق الأسيرات ذوات الأحكام العالية.
- أنت لست وحدك، كنت أتمنى ملامسة خيوط الشمس الذهبية.
-  عندما تصل الرسائل إلى عائلات الأسيرات يعتبرونها شيئا مقدّسا بين أياديهم.
- من أكثر الأمور التي أفتقدها أيضاً ساعات الصباح الباكر.

المقدمة:
الأسيرة ميس أبو غوش امرأة توقد قناديل العمر، وتفتح لنا في ظلال قلبها مأوى، وتأخذنا بعيدا عن هذا المكان العطن، عن هذه الأجساد المتورِّمة بعذاباتها والطافحة بكره الفلسطينيين.
مضت في تمتمات الليل السجيّ، كأمس التقينا صدفة.
كانت واقفة قربياُ منّا كأنها تستأنس بحوارنا معها. في هذا المكان يبعدنا عنها.. المسمّى المعتقل، واسمه الإسرائيلي، إلّا من نفر من اللاجئين على الرّصيفين بانتظار العودة إلى فلسطين.
لحظة أحسسنا أنّنا نولد من جديد.
لحظة نسينا فيها متاعبنا وأوجاعنا، لتنير بكلماتها طريقنا نحو الحرية.
كأمس التقينا وفي الصدر شوك وطرفي رماد.
ميس أبو غوش تلك التي تراها فيشتعل القلب بوميض ينير أمامك طريق الحرية والنصر.
ومرّة قالت لنا:
‐ لا أحد تشرّد باختيار، كلنّا مكرهون لسبب أو لآخر. أمّا أنا وأوّل الأسباب هذا المحتلّ الإسرائيلي الاحتلالي الغاشم، مثله مثل قطّة تلتهم عند الجوع جراءها، أو كنار تأكل نفسها حين لا تجد ما تأكله.
ليس ثمّة من يزعم اليوم أنَّه في مأمن من التشرّد. التشرّد أضحى عندنا كالجنون، كلّ أسيرة وأسير يحملان بداوخلهما بذور جنونهما ولا يدريان هل تعقم أو تخصب.
لكنّها ميس أبو غوش تعرف من شرّدنا سواء في الزنازين أو في أصقاع الدنيا.
وميس طاردت عدّوها الإسرائيلي بهذا الحوار: 
حاورها سليم النجار- غصون غانم

الاسيرة المحرّرة ميس أبو غوش: طالبة في جامعة بيرزيت، تعمل في الصحافة والإعلام، من مخيّم قلنديا شمالي القدس المحتلّة، تعرضت للتعذيب في زنازين الشاباك، والذي وصفته بأنهّ لم يكن تحقيقاً بل كان إرهاباً وعنفاً. أصدرت محكمة الاحتلال حكماً عليها بالسّجن خمسة عشر شهراً، من 29/8/2019 ولغاية 30/11/2020 وغرامة مالية.
كتبت في تقرير خاصّ لمركز الدراسات الفلسطينية عن تجربتها في الأسر: 
قام الاحتلال بعزلي طيلة فترة التحقيق، ولم يكن لديّ أدنى فكرة عمّا يحدث في الخارج وكيف تسير الحياة. عندما انتهت فترة التحقيق، التي امتدّت إلى ثلاثة وثلاثين يوماً، قاموا بنقلي برفقة الأسيرة سماح جرادات (تحرّرت حالياً) إلى سجن الدامون. في اللحظات الأولى وقفنا مصدومتين عند باب القسم الخاصّ بالأسيرات الفلسطينيات، وذلك لعدم معرفتنا المكان، وما الذي سنواجهه بعد أنْ ندخل، وإذ بنا نرى الأسيرات يتوافدن نحونا، وإحداهن تقول: "سماح وميس وصلتا"، تساءلنا في سرنا: كيف عرفنَ قصّتنا ولماذا ينتظرن وصولنا؟ لنكتشف فيما بعد، أنّهن كنّ على تواصل مع المحامين وعائلاتنا للاطمئنان علينا.

من بين القساوة رأيتُ الغد المشر 
في اليوم الأول تعرّفنا إلى جميع الأسيرات، وجلسنا معهن وتحدّثنا لساعات طويلة، واستطعنا أنْ نبدل ملابسنا ونستحِّم بعد فترة طويلة من الحرمان من الملابس النظيفة والاستحمام، وكانت الأسيرة أمل طقاطقة قد أحضرت لنا الملابس واللوازم الشخصية؛ تناولنا طعام الغداء برفقة عدد من الأسيرات، ثمّ تعرّفنا إلى قوانين الحياة الاعتقالية والأنظمة الداخلية، وكان أحدها عدم القيام بعمل يزعج الزميلات في القسم بعد الساعة العاشرة مساء.
خلال وجودي في السجن كان هناك نظام يسهِّل الحياة ويجعلها أكثر سلاسة، وهو نظام خاصّ بالغرفة، أيّ جماعي، يشمل وقت إغلاق التلفاز، وإطفاء الضوء، وفترة تناول الفطور والغداء، ومواعيد تنظيف الغرفة والدور المتّبع لكلِّ أسيرة بالتناوب. أمّا النظام الخاصّ بي فكان يتعلّق بساعات القراءة، ونوعية الكتب، وتعلُّم اللغة الانكليزية والعبرية، ومتابعة الأخبار والمستجدات السياسية.
إنّ النظر إلى تجارب الأسرى السابقين مفيد ومثمر، لكن حياة الأسير داخل السجن بتفصيلاتها تجعله يشعر بها بجميع حواسه، وقد يرى جانباً من الجوانب لم يسلَّط الضوء عليه، أو تم إهماله، لذلك فإنّ كلّ أسيرة، كما كلّ أسير، ترى بعينها كيف هو السجن، وبناء على ذلك تصنع تجربتها. لم أكن اتصوّر يوماً أنّ حياة السجن ستكون قاسية وفي الوقت نفسه مفيدة وتحمل في طياتها أفقاً نحو غد مشرق.
كانت الزيارة الأولى التي قام بها أهلي إلى السجن صعبة جداً، وبصورة خاصّة بعد فترة التحقيق القاسية، كنت أريد أنْ أحتضن أمّي وأبي، وأنْ أخبرهما بمَ أشعر وكم أنا مشتاقة إليهما؛ لم أستطع، ولأسباب عديدة، أنْ أخبرهما بما حدث معي، لكنّني شعرت بالأمان والاطمئنان بعد رؤيتهما وسماع الأخبار منهما بصورة مباشرة. عند انتهاء الزيارة، شعرت بأنّ شيئاً منِّي قد ذهب وأريده بشدّة.
قصص المعاناة تخفف أوجاعها
توجد داخل سجون الاحتلال قصص يحملها كلّ أسير وكلّ أسيرة، وجميعها مختلفة عن بعضها البعض. قد تتشابه أحداث الاعتقال أو التحقيق، لكن لكلّ منهم قصته التي تترك بصمة لا تُنسى. وما يجعل الأسير يخرج من أوجاعه ومعاناته هو سماع قصص الآخرين، وكذلك من المعيب أنْ يُذكّر الأسير رفيقّه في الأسر بمعاناته بصورة مستمرة، رغم أنّه يوجد دعم نفسي واجتماعي يجعل الأسرى يتخطّون الجانب المظلم وينظرون إلى المستقبل في محاولة لكسر السجّان والاستخبارات، وأيضاً لتحويل ساحة السجن إلى ساحة ثقافية تعليمية واجتماعية. لقد استطعت أن أخرج من تجربتي بمساعدة الأسيرات، ونظراً إلى وجود أحكام عالية تتضمّن قصصاً وحياة كان الاحتلال يريد سلبها، لكن بروح الجماعة استطعنا كسر كلّ القيود ومواصلة الحياة، فكانت المعنويات مرتفعة جداً وروح التحدّي مستمرة وباقية.
إنّ الحياة التي نعيشها في الحرية مختلفة كلياً عن السجن، فالسجن عالم آخر لا يعلم به سوى مَن عاش التجربة، فكلّ التفصيلات داخل السجن مهمّة بعكس الحياة خارج الأسر. ومن أكثر الأمور التي أفتقدها ساعات المساء عندما يتمّ إغلاق القسم والغرف على الأسيرات، أيّ عند الساعة السادسة مساءً، كنت أجلس برفقة الأسيرات: ختام سعافين، وإيلياء أبو حجلة، وربى عاصي، وشذا الطويل، وليان كايد، وعميدة الأسيرات أمل طقاطقة، ونقوم بتحضير الشاي أو القهوة بالإضافة إلى بعض الحلويات والمُسلّيات، فنتسامر ونتحدّث عن الأخبار والأحداث اليومية، حتّى وإنْ كانت روتينية قد يدخل عليها حدث بسيط وصغير ليكسبها نضارة.
من أكثر الأمور التي أفتقدها أيضاً ساعات الصباح الباكر، أي عند السادسة والنصف، حين نستمع إلى محطة الراديو التي تبث أغاني فيروز، ليتداخل صوتها ومعانيها في هدأة نفسية الصباح الحالمة، ونحضر القهوة والنسكافيه ونستعدّ لمواصلة الحياة التي يريدها السجان أنْ تنتهي، بينما نريدها حياة حرّة ومحرَّرة، ونريد لسجنه أنْ ينتهي.
عالم السجن معزول عن العالم الخارجي، وهو ما يحاول الاحتلال فعله، أي عزل الأسير عن حياته وعائلته وأصدقائه، وكذلك فرض السياسات الممنهجة لإشعار الأسير بأنّه وحيد وليس لديه القدرة على التواصل مع العالم الخارجي، كمنع اقتناء الراديو من مقصف السجن تحت حجج متعدِّدة ليس لها أيّة علاقة بالواقع سوى منع حصول الأسير على مصادر المعلومات. تعاني الأسيرات جرّاء انعدام التواصل مع عائلاتهن، والوسيلة الوحيدة التي كنّا نوصل صوتنا من خلالها هي الرسائل المكتوبة التي نرسلها مع الأسيرات المحرَّرات ساعة الإفراج عنهن، وفي بعض الأحيان تصادر استخبارات الاحتلال هذه الرسائل أو تعيدها إلى الأسيرات. وللرسائل المكتوبة طقوس خاصة تختلف من أسيرة إلى أُخرى، وعند الانتهاء منها لنرسلها مع الأسيرة المقبلة على الحرية، نشعر حينها بالنصر، وأنّ جزءاً منّا استطاع أنْ يخرج إلى الحرية ليلقي التحيّة على الأشخاص الذين نحبّهم؛ وعندما تصل الرسائل إلى عائلات الأسيرات يعتبرونها شيئاً مقدّساً بين أياديهم.
شمس المعتقل، "شُموس"
كلّ السواد قد مرّ. ذلك القماش العفن، الذي ينسال بصعوبة على بصرك ويقف بينك وبين الضوء والحياة كالحائط الفولاذي، تتمنّى أنْ يمّحى اللون الأسود ويزول اسمه أو تستبدله الطبيعة بلون آخر. لكن وإنْ استبدلته بلون زاهٍ يتّصف بالمرح فإنّ حقدك لا يزول ويبقى العمى اللحظي، عمى حتّى ولو صار وردياً. فعندما يشرع في الهبوط أمامكِ، تعلمين أنكِ عدتِ إلى اللحظات الصعبة، وقد تتلقّين الضربات واللكمات وتسيرين في ممرّ ضيق لا تعلمين أين نهايته، ومَن كان ظلّه هنا. فأنت لستِ وحدك.
كنت أتمنى ملامسة خيوط الشمس الذهبية، وأنْ تصبغ لوني ويسيل عرقي من شدّتها. فهي التي تشرق ويشرق معها كلّ أمل وميلاد. وعندما خرجت لأوّل مرّة من باطن الأرض، بعد حرمان طويل من مقوِّمات الحياة، استقبلت قبلات الكرة الصفراء المتوهِّجة وعانقتني، فبكت عيناي من قوّتها وقلت في ذاتي "وال.. وأخيراً"، ولثوانٍ قصيرة كنت أستمتع بهذا الجمال الكوني الطبيعي.
جاء الغراب وأسدل ظلامه ورأيتها من خلال الفتحات الصغيرة من العصبة وشعرت بالنصر وفشل وعودهم بإنهاء زهر البلاد. وبعد نقلي إلى المكان الذي تتواجد فيه أشعّة الشّمس مفرَّقة لتعبر من خلال مربعات وتسقط على اللواتي انتُهِكت خصوصيتهن وحُرمن الاستمتاع بالأمواج الذهبية من دون العيون المراقِبة. كما اعتدتُ أنْ استيقظ باكراً لأكون في موعد مع الجميلة وأجلس مدّة طويلة أراقب كيف تسير الغيوم، وكيف تمرّ الفترات الزمنية، وأستعيد الماضي كأنّه رواية أو قصّة لم تخرج إلى الحرية بعد.
حاول هذا الغراب أنْ يجرّدنا من الإنسانية ويحرمنا أبسط ما تتمتّع به البشرية، لنلعن هويتنا و"أمّنا" وبقينا نحن معلقين على مشانق الصباح وجبهتنا بالموت محنية لأنّنا لم نُحنِها حيّة (أمل دنقل).

لكلّ أسيرة لفتة
مرَّ أكثر من شهرين على فراقي الأسيرات في سجن الدامون، وما زلت أستذكر تفصيلاتهن وكيف تسير عقارب الساعة بعيداً عن شمس الحرية.
إذا جاءت أسيرة جديدة، كنّ يقمن بتحضير الملابس لها وجميع المستلزمات التي تتوفّر لديهن، ليتمّ استقبالها بالفرح والحبّ رغم قساوة الأسر، وإذا رحلت أسيرة، ترى العيون المملوءة بالدموع تراقب الخطوات. دموع مختلطة بالفرح والحزن على فراق إحدى الفتيات التي تحمل بداخلها الكثير من العوالم المصغرة، وبهذا تنقل الأُخريات إلى الخارج.
من أصعب اللحظات فراق الأسيرات ذوات الأحكام العالية. ويبدأ الصراع الداخلي لدى المفرَج عنها، كيف سأرحل وأتذوّق الحرية ومَن رافقتني طيلة الفترات الصعبة ستبقى ولن أراها في الصباح والمساء، ولن نتسامر معاً ونتحدّث عن تفصيلاتنا المزعجة أحياناً، لكنّها خير ما يتوفّر من أحداث السجن الروتينية.
إنها ليست مجرد أصوات بل وراء كل صوت إنسانة وقصة ونغم.
*صوت شروق دويات في الصباح الباكر "صبايا، صباح الخير، دخل السوراجيم"، و "ميس يا ميس، يا ميس قومي في بنات بدهم إشي من المطبخ"، وعشقها للطعام وروحها المرحة - الحكم ١٦ عاماً.
*ميسون جبالي وحقيبة الكتب وهي في طريقها إلى المكتبة وانشغالها المتواصل في القراءة-الحكم ١٥ عاماً.
*هدوء وذكاء نورهان في التصرّف والتحدّث ولهفتها عندما تسمع صوت عائلتها عبر الإذاعة - الحكم ١٠ سنوات.
*قوّة وشجاعة روان أبو زيادة في اتّخاذ القرارات، وطبعاً احترافها الطهي- الحكم 9 سنوات.
*طفولة ملك المخزونة في داخلها وترديدها مازحةً وبلهجة بيت صفافا: "الناس ظباع ولازم نكون ظباع"، وعشقها للفن- الحكم ١٠ سنوات.
*عطاء وحنان أمل طقاطقة الملقبة بعواطف -الحكم ٧ سنوات.