الأسير قسّام البرغوثي/سجن نفحة الزائل بوصلتنا فلسطين ولا نعرف غيرها وطنا لنا..

- في أيّ لحظة يمكن دخول السّجان الإسرائيلي عليك ويصادر أوراقك.
- رغم المساحة الضيّقة إلاّ أن هذه يستفزّك للكتابة.
- لا شيء في الحياة دون نقيض.
- نتعلّم من الزنزانة صلابة الموقف ووضوح الرؤية.
- أشتاق إلى أنْ أشتَمَّ رائحة الطبيخ والشامبو والتدخين خارج الزنزانة.
- حوّلت نصّ المعتقل إلى قصّة أسير الحرية.

المقدِّمة: 
كلّما استبدّ بنا السؤال الذي لم يتوقف يوماً عن الطرق في ذواتنا الفلسطينية على الأقلّ منذ النكبة: لِمَ نظل نعادي معرفة تاريخنا النضالي، ونلجأ للحكايات والمرويات التي يختلط فيهما الخيال مع ذاكرة مثقوبة ممتلئة بالخرافات؟ يُبشرنا قسّام البرغوثي بمستقبل يصنعه أسرى الحرية، الذين كسروا كلّ الصّور النمطية المشؤومة التي يقينا نتوارثها منذ عقود، ظواهر كهذه هي بالتأكيد للزوال، هكذا عملنا التاريخ إذا عاش أراد الحرية، فالطريق معروف والوحيد لنيل حريتنا النضال٠
وفي سياق الإجابة عن سؤال قسام البرغوثي، الذي يتعلّق في حقيقة الأمر بسؤال أكبر عن أسباب تعثّر مشروعنا الوطني، تبرز أسئلة أخرى تتعلّق بالتاريخ عموماً، الذي يجب معرفته جيدا وبعيدًا عن قراءته كأمنيات نتمناها. وعلى هذه الخطى رسم قسّام البرغوثي ملامح هذا الوعي، من خلال نصّ حوله إلى قصّة، تحمل في طياتها أسئلة شائكة، وجعل من زنزانته مفردات قصّته. والذي استطاع من خلال هذا السرد ترتيب الأولويات وتوليد الأسئلة الوطنية لتؤدي إلى إجابات وطنية. فالسؤال لدى أسير الحرية لا بدّ أنْ يكون سؤالا وطنيا بوصلته فلسطين، ولا مجال للأسئلة التي تؤدّي إلى الخذلان والاستسلام.
قسّام البرغوثي أجاب عن حوارنا فحواه ضرورة معرفة الاستبداد المعرفي الذي يؤدّي إلى فذلكة الكلام، وأهمية حرّية التعبير، شريطة أنْ يؤدّي إلى فلسطين.
الزنزانة الصهيونية حوّلها أسير الحرية إلى مرجل للحرية..
قسّام البرغوثي قصّته كانت حوارًا ومرآة للكلمات: 
حاوره سليم النجار - غصون غانم

الأسير "قسّام البرغوثي" من بلدة كوبر شمال مدينة رام الله، اعتقلته قوات الاحتلال بتاريخ 26 أغسطس آب 2019 بعد محاصرة ومداهمة منزل عائلته في كوبر، واجه تحقيقا قاسيا بعد الاعتقال وتعرّض منزل البرغوثي إلى سلسلة اقتحامات منذ اعتقاله ولحق ذلك اعتقال والدته المحاضرة بجامعة بيرزيت وداد البرغوثي وشقيقه كرمل البرغوثي، والتنكيل بوالده بإطلاق الكلاب البوليسية عليه وكان والده عبد الكريم البرغوثي قد استُدعي للتحقيق في معتقل عوفر أيضا، وقال إنّ نجليه وزوجته خضعوا للتحقيق في جولات متزامنة وطويلة بسجن عوفر دون السماح لهم بلقاء بعضهم البعض وأفرج عن الأم البرغوثي يوم 16 سبتمبر/أيلول بكفالة مالية باهظة بشرط إبعادها خارج مناطق سيطرة السلطة الفلسطينية مع حظرها من النشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي بعدما اتهمت "بالتحريض ضد إسرائيل". 
الدكتورة وداد البرغوثي قالت في تصريح صحفي، إنّ جيش الاحتلال داهم منزلهم في الـ26 من شهر آب 2019، حينها اقتحموا المنزل وأطلقوا كلابهم على زوجها عبد الكريم فنهشته، ثم حاول قسّام (26 عاماً) الدفاع عن والده فطرحوه أرضاً، وتركوا الكلاب تنهش جسده وأضافت: "تم احتجازنا في غرفة، وقسّام في غرفة أخرى، كنّا نسمع صوت صراخ فقط ولا ندري ماذا يحدث، غير أنّ التحقيق الميداني معه استمر لثلاث ساعات، وبعد أن انسحبوا ومعهم ابني، كانوا يحملون معهم كرسيّاً حديدياً، استغربنا بداية، لكنّنا علمنا بعد ذلك أنّ المحققين كانوا يضعون رجل الكرسي على جُروح قسام (أماكن عضّات الكلاب) ويضغطون عليه بقوّة" ولفتت البرغوثي إلى أنّ قسّام تعرّض لأساليب عديدة من التعذيب خلال التحقيق معه وأنّ جسده كان منهكاً جدّاً وآثار التعذيب بادية عليه، لكنّه اليوم يتعافى شيئاً فشيئاً كونه يتمتّع بمعنويات عالية. جرافات الاحتلال هدمت منزل عائلة الأسير البرغوثي المكوّن من طابقين، بمساحة 200 متر مربع لكلّ طابق، بالإضافة إلى بئر المياه الذي تمتلكه، وسط تخريب متعمّد للأشجار المثمرة المحيطة بالمنزل.
 الاحتلال يواصل حربه على الأسرى ومعاقبة ذويهم بشتى الأساليب والسبل المتطرِّفة.

أيّام عدّة لم أَرَهُ خلالها، عرفت أنّه في البيت ولا يخرج أبداً، ما به؟ ماذا حلّ به؟ ولماذا هذا الاعتكاف؟ هذه العزلة؟ يقول أحد رفاقي إنّه زاره وكان في حال سيئة جداً؛ "ضايع وسرحان" هكذا قال عنه، ظلّت هذه العبارة تقرع جدران رأسي طيلة الوقت، أقول لنفسي: "أبو الصابر لا يمكن أن ْيضيع". 
دائما نهتدي إليه كلّما غطى الضباب معالم طريقنا، نهتدي إليه، ينقشع الضباب من أمامنا بالعمل قبل القول فكيف يكون ضائعاً؟ 
لا يمكن أنْ أصدِّق يوماً أنّ مثله يمكن أنْ يضيع، مثل هذا الرجل تشعر مع كلّ شعرة تشيب في رأسه أو لحيته بالرعب والخوف من أنْ تفقده في يوم ما، كان مجرّد التفكير في احتمالية فقدانه يوماً يثير فيَّ وفي كثيرين ممن تتلمذوا على يديه الرعب وأقصى درجات القلق.
يجب أنْ أزوره، أفهم منه ما الذي يعزله، ما الذي يكسره. لا! مثله لا يُكسر، لا يمكن أنْ يُكسر، سنوات طويلة من الأسر والحرمان، من القهر والتعذيب لم تزده إلاّ قوّة وعزيمة لمواصلة الدرب، سأزوره الآن، اشتقت إليه. اشتقت لنفس التحدّي المتأصِّل فيه، لبلاغته في التشبيه، لشايه الأحمر الثقيل.
طرقت باب منزله، بعد لحظات فتح الباب وأطل صابر:
- مرحبا!
- أهلاً، تريد أبي؟ أبي ليس هنا.

-"صابر، من على الباب؟"، جاء صوت أم صابر من الداخل.
-"صديق أبي"، قالها صابر وهو يتشاغل بهاتفه. 
- قل له إنّه في بيت أمّه. 

تجاهلني وظلّ مشغولاً بهاتفه، هبطتُ الدرج وعند آخر درجة استدرت ثمّ نظرت إليه، كان ما يزال واقفاً كالتمثال يعبث بهاتفه كما تركتُه تماماً، أو بالأحرى كما تركني أمام الباب، صابر كان بعمري أو أكبر مني بقليل.. أكملت طريقي إلى بيت جدته.
كان البيت عبارة عن غرفة يلتصق بها حمام خارجي، كانت قبل ذلك مخزناً تُربِّي فيه والدة أبو الصابر الدجاج، ومع أوّل سنوات اعتقاله اختلفت أم صابر مع حماتها، كانت أم صابر تعاملها معاملة سيئة، أجبرت هذه المعاملة والدة أبي الصابر على تحويل ذلك المخزن لغرفة تعيش فيها. 
توفيَت في تلك الغرفة أثناء وجود أبو الصابر في السجن، توفيت في مخزنها وحيدة لم يعرف بوفاتها أحد إلا ما ندر، قاطعتها من السنة الاولى لاعتقاله وكانت هي وحماتها يخبئن ذلك عن أبو الصابر، عرف ذلك بعد تحرّره عن طريق الصدفة، عاد يومها لمنزله فلم يطق العيش في منزل طُردت منه أمّه، شعر بغربة وسط أسرته التي كان يحسب بالثانية بعده عنها، كأنّها ليست الأسرة التي أبعد عنها قسراً وبكى عليها بحرقة دون أنْ يرى أيّ أحد دمعته. انسَلّ وذهب إلى مخزن أمّه يستسمحها ويداري خيبته مع روحها.
حين فتح الباب، لاحظت دون جهد ضعف جسده، ملامحه لم أعهدها يوماً بهذا الشكل بهذا التعب، أدركت أنّ مصيبة ما حطت بمخالبها وثقلها على كتفه، رحّب بي وأدخلني، جلست على أريكة اعتدت الجلوس عليها كلّما زرت والدته.
بسرعة لمست أنّه يتحاشى النظر إليّ مباشرة، أنا الذي كنت أخجل من النظر لعينيه مباشرة، شيء ما كان يمنعني من ذلك. وكان يعرف احترامي له ودون أنْ أحكي له عن هذا الخجل أدرك ذلك وصار كلما حدّثته يرسل عينيه بعيداً ليتركني أتحدّث براحة، لكن هذه المرّة يختلف الأمر تماماً، لا ينظر إليّ بتاتاً، أنا الذي أصغره بأكثر من عشرين عاماً يتحاشى النظر إلى عينيّ! 
 سألته أسئلة روتينية، أجابني عليها ثمّ خيّم علينا الصمت، سألني: شاي أم قهوة؟ 
-"اشتقنا لشاياتك"، قلت له.
 نهض عن أريكته وتوارى خلف ستارة رمادية تفصل المطبخ الصغير عن باقي الغرفة، رحت أحدِّق في منحوتات خشبية وقطع قماش رسم عليها أو كتب عليها كانت معلقة على الحائط، كان أبو الصابر يخرجها من سجنه، أيّام طويلة وهو ينحتها ويعمل عليها وفي نهاية الأمر كانت زوجته تعتبرها خردة "بين براويز غالية الثمن"، فترسلها إلى والدة أبو الصابر التي تدرك عظيم قيمتها، تحتضنها، تتحسّس كلّ جزء فيها، تقبلها، تقبل عرق يدي ابنها، تمزجه بدمعاتها ثم تعلّقها على الحائط في غرفتها.
بعد دقائق جاء الشاي، وضع الإبريق على الأرضية ثمّ وضع الصينية على طاولة صغيرة بيننا. كنت أراقبه، أتفرّس أحلامه، بدا لي أنّه حاول فتح موضوع، ولكنّه لسبب ما عدل عن فكرته، بادرته بالسؤال: 
- ألن تخبرني ما بك وما يحدث معك؟ 
لم يُجِب، تشاغل عن سؤالي بصبّ الشاي، أمهلته لحظة ثم أعدت سؤالي عليه ولم يجبني، قدّم لي فنجان الشاي وأبقى فنجانه على الصينية، رشفت رشفة من شايه اللذيذ وقلت متوسلاً: 
- أبا الصابر، أنا مثل ابنك أخبرني ما بك، أرجوك!
 تألّقت دمعة في عينه اليسرى، مسحها بطرف كمِّه ثمّ أمسك فنجانه، وما إنْ رفعه؛ حتّى أصدر الفنجان صوتاً وبقي قاعه على الصينية وارتفع باقيه في يد أبو الصابر، أبقاه مرتفعاً قبالة وجهه تنقط منه قطرات الشاي على الشاي المنسكب في الصينية؛ يحدِّق بالفنجان، وتنطبع على شفتيه ابتسامة مُرّة، تتألّق الدمعات في عينيه، ثمّ تنساب ببطء لتختفي في لحيته التي لم تُحلَق كما اعتادت. لم يعد قادراً على مواراة دمعاته، شعرت بالاختناق، اختناق ما قبل البكاء، ثمّ بدأت ببكاء صامت لما آل إليه حاله..
- ليت ابني مثلك، يا سامح، ليت أبنائي كلّهم مثلك، لقد خذلوني كلّهم! خذلوني كما خذلني هذا الفنجان، أبنائي، زوجتي، كلّهم خذلوني!
 صمت لبرهة ثمّ أضاف:
 حين أراهم وأرى تصرّفاتهم، أقارنهم بك وبرفاقك؛ أخجل من نفسي، أهؤلاء أبنائي؟ أهؤلاء أبنائي يا سامح؟ ظلّ يكرّرها ويبكي. 
كنت أربِّت على كتفه ورحت رغماً عنّي أبكي معه.
منذ عامين ونصف العام تقريبًا، كانت هذه المحاولة هي الأولى حيث كتبت جزءاً من هذا النّص، شعرت أنّه لم يكتمل كقصّة لهذا الموضوع، فحوّلت النصّ إلى قصّة أخرى تتعلّق بالخذلان؛ ولم تكتمل أيضاً..
وها أنا أكتب مجّدداً بعد محاولات عدّة كنت أتشبّث فيها ولا أستطيع الكتابة، كتابة هذه القصّة بالذات، فالكتابة في السجن موضوع آخر..
ربّما يظنّ الكثير من الناس أنّ أكثر الأماكن ملاءمة للكتابة هو السجن، لكن في غرفة كالتي أكتب فيها الآن هكذا هي، أقبع فيها مع سبعة من رفاقي، ننام فيها، نأكل ونطهو فيها، نقضي حاجاتنا ونستحم فيها، ويلعب بعضنا فيها الرياضة، حيث بإمكانك في اللحظة ذاتها أن تشتم رائحة الحمام والطبيخ والخضار والشامبو والتدخين، هذا ناهيك عن الأصوات التي تسمعها أثناء الكتابة، صوت الراديو، الدوش، المرحاض، تعليقات الزملاء على التلفاز، حواراتهم ومجادلاتهم الدائمة، صوت المراوح، الأبواب، الكلاب التي تربض على سقف الغرفة، ساحة القسم المجاور ولعب كرة الطائرة، هذا دون الإجراءات التي تقطع حبل الأفكار، فحص شبابيك، وتفتيش محتمل في أيّ لحظة، يمكن أن يودي بأوراقك إلى مكان مجهول لا تعرفه إلاّ إنْ كانت "كتابات أمنية"، وإنْ كانت كذلك فإّنك حتماً ستتعرف عليها في مركز تحقيق ما. ومفهوم الأمن هنا فضفاض؛ فيمكن أنْ يتمّ اعتبار رسالة لطفل لم يبلغ الأربع سنوات رسالة أمنية يتمّ عزلك على إثرها. هذه هي الظروف التي يكتب فيها من هم في الأسر، ومع ذلك كلّه، نكتب. 
رغم كلّ التشتّت في هذه المساحة الضيِّقة إلاّ أنّ هناك دائماً ما يستفزّك للكتابة، فتكتب رغم كلّ الظروف، ربّما كان التشتّت جيِّداً.
كي لا أنهي قصتي قبل الآن، وها هي الآن اكتملت كما أردت أن تكتمل، وكما أريدها أنْ تصل، ولو كانت قد اكتملت قبل الآن ستكون ناقصة، لكن في حياتنا دائما ما يستجدّ، والجديد يُكمل أو يهدم.. وها هو الآن يُكمل.
"انظر إلى أبناء فلان" عبارة سمعتها وما أزال أسمعها بين فترة وأخرى، ولا شكّ أنّ كلّ مناضل سمعها. في مرحلة ما كنت وما زلت أعتبرها عبارة انهزامية، يقدِّمها بعضهم ليبرِّر بها تقاعسه عن النضال، أو للتشويه، لكنّها دائماً كانت تحظى لديّ بوقت للتفكير، أعطيها حقّها؛ ليس لأجد مبرراً يبعدني عن طريق النضال.. بل كي يكون يوماً ما أبنائي فيه كأبناء "فلان"، ولأعرف ما جعل أبناء "فلان" هكذا، و"فلان" هذا مثله مثل أبو الصابر، مناضل نجده في ساحات النضال كلّها.. في الأسر، في العمل النقابي وفي شتّى الأحزاب والحركات السياسية. نتعلّم منه مِن جَلَده وصبره، صلابة مواقفه، ثقافته، نتأثر به ونستأثر بمآثره، لكنّنا في الوقت ذاته نجد أبناءه في طريق آخر، يبتعد كلّ البعد عن طريق النضال، عن طريق والدهم، وهنا يفرض سؤال ما نفسه بقوّة: لماذا يؤثِّر في كلّ من يلتقيهم ولا يؤثِّر في أبنائه؟! 
حين كان يلتقي "فلان" وأبو الصابر بشبان كأبنائه، يرى أنّهم في ضلال، يصلبهم، يثقِّفهم، يهذِّبهم ويزرع فيهم القِيم الوطنية، يخلِّصهم من "مياعتهم" كما يصف، ويجتثّ منهم الأفكار الليبرالية التي تبتعد بأصحابها عن معاناة شعبهم. هكذا كان يقول أبو الصابر أو "فلان" وفي الوقت ذاته، نجد ابن فلان غارقاً في ليبراليته، في جهاز أمني، أو ترى على صفحات التواصل صوراً لابن فلان في ملهى ليلي في دولة إمبريالية كما يصفها والده، أو تجد ابناً لفلان في... لا، بل لا تجده! فكيف تجده وهو لم يسلك يوماً أيّ درب نضال؟! وابن فلان كذا، ابن فلان هكذا، ابن فلان ذهب ابن فلان هاجر إلى دولة ما.. 
يعود مع كلّ مثال عن ابن لفلان السؤال الملح ذاته، لماذا يؤثِّر فينا ولا يؤثِّر في أبنائه؟ هكذا أتساءل دائماً ويسألني الأصدقاء هذا السؤال. نتقارب في الأجوبة التي نقدِّمها، لكنّها كلّها تكون في خانة "ربّما" التي لا أعرف أهي مبرّرَة أم لا.. أهي صحيحة أم لا؟ وكانت كلّها على هذا النحو، ربّما الزوجة وطريقة تربيتها؛ كونها عانت العذاب ولا تريد لأبنائها أنْ يعانوه. ربّما أفكار الزوجة تختلف عن أفكار زوجها، تختلف عن أفكار زوجها النضالية، ربّما عاطفة الأمومة، ربّما المحيط الاجتماعي للأسرة، ربّما البعد الطبقي، وربما وربّما وألف ربّما يمكن أن ْتجيب عن هذا السؤال؛ فكلّ فلان تختلف أسبابه عن فلانٍ الآخر، لكنّني لم أكن أتخيّل يوماً أنّ هذا النمط من التربية يريده "المناضل" ذاته لابنه الصغير..
قبل فترة وقعت بين يدي رسالة كتبها مناضل ما لطفله، استفزّني كثيراً، لكن هذه القصّة لم أكن سأراها مكتملة لولاها. كانت الرسالة تدلّ على أنَّ كاتبها "المناضل" في دولة أجنبية وليس في السجن، وهو في رحلة عمل! رأيت يوماً مثل هذه الرسالة في فيلم أو مسلسل تلفزيوني، كانت من سجين جنائي اتُّهِم بالسرقة والاتّجار بمواد مخدِّرة، كان يرسلها لطفلته كي لا تعرف أنّ والدها في السجن على قضية قذرة، لكن أيفعلها أسير حرية؟! أيكتبها مناضل يربّي أجيالاً؟! ألهذه الدرجة يخجل من نضاله؟ وأمام من؟ أمام طفله! أيعقل أنْ يكون قد أدرك الآن أنّ النضال الذي شبّ وقارب أنْ يشيب عليه كان خطأ في خطأ، ولا يريد لابنه أنْ يشب ويكبر عليه؟ أنْ يكبر على خطأ والده؟!
لا شكّ أنّنا في التفكير في أمور حياتنا كلّها، كلّما فكرنا بشيء نفكِّر في الوقت ذاته بنقيضه. لا شيء في الحياة دون نقيض، ولا مفرّ أمامنا من استحضار نقيض هذين النموذجين "فلان وصاحب الرسالة"- عمر البرغوثي "أبو عاصف"- أستحضره الآن كنقيض وكنموذج فذّ، منذ أشهر رحل عنّا. وفي الوقت الذي أكتب فيه الآن هو الآن والد شهيد وأسيرين أحدهما يقضي حكماً بالسجن المؤبّد عدّة مرّات، أستحضره الآن في قصّة تربوية.
"ذات يوم وفي ساعة متأخِّرة من الليل، اقتحم الاحتلال الصهيوني منزل العم عمر وكان ذلك قبل هدم المنزل بأيام، وقف ضابط المخابرات الصهيوني وحدّق في صورة معلّقة، كانت الصورة للشهيد صالح، نجل العم عمر، كان صالح في الصورة يقف أمام ذبيحة ربّما كانت لعيد ما، قال الضابط بعربية ركيكة للعم عمر بعد أنْ أشار للصورة: "هيك، بتربي أولادك على الإجرام؟ وكمان خسرت ابنك. وهسا مين بده يربي ابنه؟"
 ردّ العمّ عمر بحزم: "أنا بربيه".
- كيف؟ سأل الضابط.
- مثل ما ربّيت أبوه وعمه.
ذهل الضابط من الإجابة وكرّر سؤاله دون وعي.
- كيف؟ 
- قيس! نادى العمّ عمر حفيده،
 -نعم يا جدّي. ردّ قيس بصوته الصغير الجريء. 
- شو بدّك أشتريلك؟ 
- بارودة.
- ليش؟
- عشان "أتخّ" فيها على الجيش! 
صُعق الضابط من الإجابة، ولم تسعفه الكلمات العربية التي تعلّمها لينطق، كان يفكِّر في هذا الحوار القصير وفي هذه التربية المتأصِّلة في العائلة منذ عشرات السنين، في طاقة العمّ عمر الذي كان يبتسم وما يزال.
وعندما سمعت هذه القصّة خطر لي من شعر لمظفر النوّاب لا أذكره الآن، لكن ليس بالضروري أنْ تكون الحقيقة شعراً، يمكنها أنْ تكون مقولة شعبية تحضرني الآن "كلّ نهر على منبعه أمين". 
من سلسلة القصص "هكذا عرفت العم عمر"