شريط عيسى الناعوري الأسود

  
سعيد الصالحي.

فرغت قبل عدة أيام من قراءة نسخة الكترونية من مذكرات الأديب الكبير الراحل عيسى الناعوري والتي تحمل عنوان "الشريط الأسود -اعترافات-" من اصدارات دار المعارف في مصر في العام ١٩٧٣، والتي كتبها الناعوري لأول مرة في العام ١٩٥٤ كما ذكر في مقدمتها، ولأكن صريحا أنا لست ممن تجذبهم المذكرات والسير الذاتية بسهولة، فصاحب المذكرات في عالمنا العربي -إلا من رحم ربي- غالبا حسن السيرة والسلوك ومثالي منزه عن الأخطاء، وبعض من قرأت سيرتهم الذاتية حاولوا إقناعي أن الشمس تشرق من جيوب معاطفهم، أما في مذكرات الناعوري فتجد أنك ستحمل بؤس الماضي معك حتى اللحظة الأخيرة من حياتك، كما حملها الناعوري معه في طفولته وصباه وعندما جاب ايطاليا ودول العالم، وحتى عندما أصبح أديبا مرموقا لم يستطع التخلص من ندوب الماضي التي تركت آثارها في روحه.

 وكان أول ما استوقفني في مذكرات شريطه الأسود أنها لم تذكر اسم المدينة التي رحل إليها كما لم يذكر الأديب اسم القرية التي فر منها، على الرغم من ذكره لمدن ومناطق أخرى باسمها، وصرت ألتهم الصفحات لعلي أجد اسم المدينة أو القرية فلم أجد لهما أثرا طوال صفحات المذكرات، فكيف لكاتب المذكرات الذي يعرف زقاق المدينة وشوارعها وحاراتها ان ينسى ذكر اسمها؟ أو ربما تعمد ألا يذكره كما فعل مع قريته، لقد رسم الناعوري بكلماته تفاصيل المدينة والقرية دون ذكر اسميهما كأنه يقول لنا هذه المذكرات تشبه تجربة كل من رحلوا وتركوا منازلهم خلفهم بحثا عن حياة جديدة في مدينة أخرى، فحينها تتشابه اسماء المدن ولا ضير إن لم تعرفه أصلا وكذلك يحاول هذا المهاجر ألا ينظر إلى الخلف من حيث أتى، فيتناسى حتى يتمكن من التعايش وليمضي قدما نحو حياته الجديدة التي اختارها أو فرضت عليه، ومن هذا المنطلق على ما أظن لم يأت الناعوري على ذكر اسم المدينة والقرية.

الامر الآخر الذي لم يمر مرور الكرام بالنسبة لي كقارئ ان الناعوري الذي كان يخجل من الحديث إلى الفتاة التي أحبها في صباه خلال عمله في المدينة، لم يخجل عندما كتب مذكراته أن يواجه خجله وأن يعترف بأن خجله ظل ملازما له لفترات أخرى من عمره وبأن هذا الخجل ليس مزية محمودة دائما، وكذلك لم يخف فقره أو قساوة والده الذي كان يشبعه ضربا واخوته بدون أي ذنب، ولم يخجل الناعوري أن يعترف لنا بأن قصة حبه الثانية لم يكللها النجاح لأن والدة الفتاة التي احبها قد انتقدت جذوره القروية، والذي وجد أديبنا نفسه مدافعا عنها ومعتزا بها، رغم فراره من بيئته القروية وتقاليدها، إلا أن النقد الذاتي للجذور القروية شيء ونقد الآخرين لها شيء آخر تماما، فأنا كقروي أو مدني لدي الكثير من الملاحظات على بيئتي ولكنها ليست بالشيء الذي أسمح للآخرين بالتهجم عليه أو الانتقاص منه.

ومن اللافت أيضا في هذه المذكرات أن الناعوري لم يذكر السنوات وإن كان قد أشار لبعض الأحداث التي شغلت مجتمع المدينة في ذلك الوقت كإلقاء القبض على عصابة "العرميط وأبي جلدة" من قبل السلطات الانجليزية المحتلة لأراضي المدينة، وإن كنت لا أتفق مع توصيفه للعرميط وأبي جلدة بالعصابة كما وصفتهما سلطات الانتداب الانجليزية في العام 1933 بعصابة التشليح بل ان الواقع والتاريخ يشهد بأنهما كانا من خيرة الثوار والمناضلين في نابلس وجبالها وقد التف حولهما عشرات الفلاحين من كافة القرى، وكان كل من أحمد محمود ابو جلدة من قرية طمون و صالح أحمد المصطفى ولقبه العرميط من قرية بيتا من أوائل الثوار الفلسطينين الذين دفعوا أرواحهم في سبيل حرية فلسطين، وربما استخدم أديبنا هذا الوصف لتأثره بالصحف اليومية التي كان يطالعها أو مما يتناقله العامة في المدينة ولأن الحقائق لم تنجل في تلك الأوقات كما هي جلية وواضحة اليوم، وعودة إلى الأستاذ الناعوري الذي أسقط التقويم من مذكراته وربما لم يشغل الفتى الناعوري في ذلك الوقت تأريخ حاضره الذي برأيه لا يستحق أن يذكر أو ربما لأنه كان دائم النظر إلى مستقبله ومشغولا بما ستحمله له الأيام القادمة التي ربما ستستحق التأريخ، أو لأنه كان هاربا كذلك من كل ما يشده نحو الماضي البائس الذي جمع به الحطب وعاش فيه فقد الأم وقساوة الأب ومحدودية البيئة القروية، وكذلك واصل التمرد على حاضره الذي لا يراه أسودا لا أمل فيه، فمن يأتي الإيمان بهذا الحاضر وهو يبيع الكازوز المثلج ويحمل الأتربة في الورش ويمسح الارضيات في المطاعم ويقطع البصل والبندورة ثم يجلي الصحون وبعد ذلك يرتدي ملابس مستعملة ليعمل نادلا في المطاعم، اي حاضر هذا الذي يستحق التأريخ فلو كان أي احد مكانه للعن تلك الساعات واللحظات وفقد كل نظرة متفائلة في الايام القادمة.
كان لشقيق الناعوري الأكبر نصيبا جيدا في مذكراته، فقد ظهر فجأة في المدينة وبدأ بممارسة صلاحياته التي فرضتها العادات والتقاليد على أديبنا الذي كان ينصاع لها احتراما وتقديرا لشقيقه الذي لا يتفق معه في كثير من التصرفات والمواقف والرؤى وخصوصا فيما يتعلق بالمال، وكادت هذه الطاعة الأخوية أن تودي بحياته عندما تبع الأوامر ورافق شقيقه إلى الغور للعمل هناك فكادت الملاريا أن تفتك به لكنه تمكن من النجاة كما نجى فيما مضى من الوحوش عندما عبر الفيافي وحيدا نحو المدينة، ولكن بعد عدة سنوات استطاع الناعوري التمرد على كل الموروثات واستطاع أن يستقل وان يرفع علم حريته الخاص، وبعد أن دفع ثمن اختياراته فيما مضى عرقا ومرضا وخوفا، فها هو اليوم بعد التمرد والخروج من جلباب أخيه ما زال يدفع ثمن اختياراته مرة أخرى، وعاد لينفق جل دخله على شراء الكتب والروايات والتي لم تسلم هي الأخرى من تمرده إذ قام بحرقها عندما عرف ما يحتاجه من كتب ومراجع لبناء ثقافته وصقل معرفته، وعلى الرغم من تكرار المواقف التي تجمع بين الناعوري وشقيقه إلا أنه لم يتطرق لذكر اسمه كما فعل مع الشخصيات الأخرى الأقل أهمية وتأثيرا في سيرته، وفي اعترفاته لم ينس الناعوري ان يذكر أنه كان يحترم شقيقه وانه لا ينكر فضله على الرغم من الإختلاف الكبير بينهما.

مذكرات الناعوري لا تعرف الجغرافيا كما نعرفها اليوم، فقد كان فتى صغيرا عندما عبر الغور والنهر نحو الغرب، وعاش في مدينة سرعان ما انتمى إليها رغم شظف العيش وقسوته، وعندما كان يحن للقرية كان يعود إليها في أي وقت، وللناعوري مفارقات عجيبة مع الجغرافيا فقد ولد في الفحيص كما ورد في مقال الأستاذ يوسف حمدان المنشور في جريدة الرأي بتاريخ ٣٠ ايلول ٢٠٠٥ وكان أهله يقيمون في مدينة السلط، ثم ابتاع جده أرضا في ناعور التي نسب إليها فيما بعد، ثم سكن وعمل في مدينة القدس، وبعد الاحتلال الصهيوني لفلسطين هجر مع من هجروا وعاد إلى الحصن ثم إلى عمان وله صولات وجولات في ايطاليا التي أتقن لغتها وكان من الرواد في ترجمة الأدب الايطالي وتقديمه للقارىء العربي في كل مكان، لقد عشق الناعوري العربية وعشقته وكان عروبيا حتى عند وفاته إذ توفاه الله في تونس بذبحة صدرية، فالناعوري لم تحده الجغرافيا حيا وميتا.

عندما انتهيت من قراءة الشريط الأسود، بدأت أبحث عن اعماله الأخرى مثل بيت وراء الحدود وليلة في القطار ومارس يحرق معداته وغيرها من الاعمال الأدبية من قصص قصيرة أو الأعمال المترجمة فلم أتمكن من الحصول عليها، ولكنني لم أفقد الأمل فتواصلت مع أصدقائي للتنقيب في مكتباتهم الشخصية وكلي ثقة بان سأجد بعضها لديهم، ومن هنا فانني أدعو وزارة الثقافة بضرورة إعادة نشر أعمال هذا الأديب الموسوعي الذي قدم لنا الكثير وما زال يقدم لنا رغم رحيله عنا في العام 1985.