في المزرعة الزرقاء

رمزي الغزوي - 
كان على الإنسان في العصر الشفوي أن يكون أذناً تسمع وتعي. فالكلام لم يكن يحفظ أو يعاد. هو عود ثقاب لا يشتعل مرتين. في ذلك العصر تولدت عبارة (السمع والطاعة)، بكل دلالاتها القطعية الانصياعية. وتولدت في المقابل، فكرة أن الخادمة قد تسمن من أذنها، إذا ما كِلنا لها مديح العسل وفستقه الشهي. 
في ذلك الزمن كانت الحاجة أن يتقارب الناس ليسمع بعضهم بعضا، فكانت القرى والبيوت المتلاصقة واللقاءات الكثيرة. وكان من البيان سحر يخلب الألباب، فثمة من يجبرك أن تسمع له، وتتلذذ برطب كلامه. وثمة من يفرض عليك أن تمد رجلك، بعدما ينبس أولى كلماته. 
مع حمى العصر الاتصالي الجديد، عصر فيسبوك وأخواتها، كتب أحدهم شاتما آخر: يخلف على مارك زوكربيرغ الذي جعلك تعرف الكتابة. وهنا يجيء الرد فورياً صادما: يعني حضرتك كنت تكتب قبل الفيس بوك، وكان لك صوت يطلع، إلا في الحمّام. 
نحن نحيا العصر التفاعلي، فوسائل الاتصال الحديث وفرت منصات سهلة مكنت (حتى الذي لا يقرأ ولا يكتب) أن يطلق أفكاره أو بلاويه، أو غازته كيف يشاء. وهذا الشيء قد ولد شعوراً بالأهمية وتقديراً مبالغا فيه للذات لدى بعض الناس. 
فأنت إذاعة نفسك، وتلفزيونها، أو صحيفتها. تذريع وتبث وتطلق خطاباتك، دون رقيب أو حسيب. والجميل في فضائنا الأرزق أن (البوستات ببلاش، واللايكات مجاملة)، أو (اللايك باللايك) والبادي يستحق كومنت (مشاركة). 
في العصر القديم تقارب الناس ليسمعوا بعضهم، مما فرض عليهم أن يكونوا كالقنافذ، أي يتقاربوا بحذر شديد، حتى لا تؤذيهم أشواكهم. اليوم نحن متقاربون افتراضياً بشكل لصيق، ومتباعدون مكانياً ونفسياً وروحياً بشكل كبير. ومع هذا ما زالت تدمينا أشواكنا، وتفقأ عيوننا، وتوغر مراراتنا. 
في ذلك العصر كان هناك مكانة للكلمة وقيمتها، ومكانة لفارسها. اليوم لم يعد هناك فارس. الجميع رؤوس في مزرعتنا الزرقاء، ولا قنانير بيننا (القنانير هي رؤوس البصل الصغيرة). الكل يرى نفسه بحجم الكون. حتى القنارة ترى نفسها بطيخة أو تفاحة أو فجلة بحجم قرعة.    
وجميل أن نرى الناس منصات لأنفسهم، مقدرين لذواتهم. ولكن في هذا الفضاء الواسع. يكون الأجمل والأجدر بنا أن ننزل الناس منازلهم، وأن نعي أنه لو اجتمعت (لايكات) العالم على أن تغير الحماقة أو التفاهة أو السطحية ما غيرتها. فالعبرة ليس فيما كتبنا. بل ماذا كتبنا؟ وكيف أثرنا؟.