العرض المسرحي «نساء بلا غد»…الحياة نفسها في مكان آخر

محمد عبدالرحيم
هذا العنوان مُستمد من رواية للكاتب التشيكي ميلان كونديرا، وربما هو الأنسب لحال شخصيات العرض المسرحي «نساء بلا غد»، المأخوذ عن نص بعنوان «نساء بلا رب» لجواد الأسدي ـ يُقام حالياً على مسرح الهناجر في دار الأوبرا المصرية ـ ففي ظل ما تشهده عدة بلاد عربية من تدمير مُمَنهج، بهدف الحفاظ على سلطة لا تهتم إلا بنفسها ومَن يتكسبون منها، بحيث يصبح الناس مجرد قرابين لاستمرار هذه السلطة أو تلك. من ناحية أخرى ينحصر الحلم في محاولة الفرار والانفلات من هذا الجحيم، على أمل مواصلة الحياة بشكل مختلف في مكان آخر، ولكنها تظل كما هي، بل أشد وأقسى. لتتواتر عدة تساؤلات.. هل يمكن نسيان ما حدث؟ هل تستطيع النفسيات المشوّهة تجاوز محنتها والبداية من جديد؟ وهل هم أحياء بالفعل أم مجرد أجساد موهومة بالحياة؟

العرض

العرض أداء.. بسمة ماهر، نهال الرملي، ولونا أبودرهمين. ديكور أحمد جمال، إضاءة أبو بكر الشريف، أزياء رحمة عمر، موسيقى مصطفى منصور، استعراضات مناضل عنتر. إعداد وإخراج نور غانم. يدور العرض حول محاولة ثلاث نساء سوريات الحصول على حق اللجوء في ألمانيا. ورغم أنهن يجسّدن حالات كثيرة لنساء مختلفات، إلا أن الأمر الآن لم يعد يقتصر على النساء السوريات، وقد تصدرت السودان المشهد، وكذا عدة مناطق ودول عربية. هنا تبدأ كل امرأة في حالة من الاعتراف وهي تقف أمام (محقق) ـ وهمي بصرياً ـ حتى يمنحهن حق اللجوء والدخول إلى ألمانيا، ليصبح المحقق هنا هو الجمهور، فتقوم كل شخصية بتوضيح وشرح ما تعرّضت له في بلدها، حتى يقتنع ويسمح لها بالحياة.
ولكن وقبل استعراض حياة



هؤلاء ـ من خلال اعترافاتهن ـ نلمح نفسياتهن المحطمة، أو ما يدّعونه عن أنفسهن، بمعنى أن يراهن الآخر كما يردن (المحقق/الجمهور)، ولا فارق هنا بين غرفة تحقيق، أو المنزل الذي يعشن فيه، إلا من خلال الشجار أو المواقف التي تكشف صراعاتهن، رغم حالة (الضحية) التي يتحركن من خلالها.. «فاطمة» (لونا أبودرهمين) ممثلة وأكثرهم ثقافة، وتبدو متزنة عن زميلتيها في الغرفة، وقد تعرضت للعنف من جانب الأمن، وعانت أخطار الهجرة غير الشرعية ومهربيها. وبين الحين والآخر تقوم بأداء بعض المشاهد المسرحية التي أدتها في السابق، حتى لا تنسى وتظل محافظة على قوتها، لكنها في الأساس تتنفس اليأس، وضياع حلمها الفني إلى الأبد. ثم «مريم» (بسمة ماهر) التي تداوم على الصلاة وترتدي الحجاب، وتنتقد دوما الفتاة الأخرى التي تعيش على هواها ـ أديل ـ واصفة إياها بسوء السلوك، حتى «فاطمة» لم تسلم من انتقاداتها، وقد وصفتها بأنها فرّت هاربة ولم تستطع البقاء مع أسرتها. ولكن «مريم» تحاول أن تمحو تاريخها وأن تعيش حياتها الحقيقية في الخفاء، فهي تواعد شاباً من البوسنة، ويبدو أنها مارست معه الحب، لتنهار في النهاية وتعترف بأنها ضحية من ضحايا ما عُرف بـ(جهاد النكاح) وقد جاهدت. هذه النماذج/الأنماط تبدو أقرب للكليشيه ـ مثقفة ومجاهدة نكاح ـ أما الشخصية التي تعد بالفعل أكثر حياة في العرض فهي «أديل» (نهال الرملي) بغض النظر عن أنها أيضاً على عكس ما تبدو، ولكنها امرأة لم تفتقد وطنها فقط، بل طفلتها المولودة بعيب خلقي، والتي بعد الشفاء تموت برصاصة، هذا الموقف الذي يجعلها تعيش دوماً في لحظة تناسي ممتدة من الغناء والرقص ومواعدة الرجال ـ شكل من أشكال التدمير الذاتي ــ فهي الوحيدة التي تجسد حالة مساواة الحياة بالموت.

رغم تقاطع الأحداث بين الوقوف بين يدي المحقق واستعطافه، والحياة في الملجأ المشترك، إلا أن مكانيّ السرد يتواتران من خلال الإضاءة التي تتسلط على شخصية من الشخصيات، لتبدأ في سرد تفاصيل حياتها وما شهدته من أهوال، وتفاصيل حياتية بين الشخصيات، من لحظات غضب وتشاحن، وكذا بعض الصفح والرحمة، إضافة إلى الاستعانة ببعض المشاهد السينمائية ـ التقنية المعهودة الآن ـ لاستعراض حيواتهن السابقة، أو رحلاتهن حتى وصلن إلى الحدود الألم`انية. ووفق هذه الرؤية انقسم المكان إلى لحظات زمنية، ماض يمثله عمق المسرح في الخلفية، وهي شاشة السينما التي تعرض عدة لقطات من حياتهن السابقة، ووسط المسرح، حيث اللحظة الآنية في بيت اللاجئات، واستعراض الحياة اليومية وسلوك وعلاقات الشخصيات، التي اجتمعت مُصادفة ليس أكثر، ثم لحظة المستقبل المرجو، وتمثلها مقدمة المسرح، حيث الوقوف أمام المحقق، أو رجل الأمن الذي يأملن أن يتعاطف ويصدق حكاياتهن، ويمنحهن حق اللجوء. وهنا تقف كل واحدة في دائرة من الضوء، معزولة عما كان وما هو كائن.

الأحداث

ومن دائرة الضوء هذه إلى دائرة أخرى لا يمكن الفرار منها أو الخروج عليها، فكما بدأت الأحداث أمام رجل الأمن الألماني، تنتهي أيضاً وهن أمامه، كل واحدة في عزلتها، مُعلّقة على الحدود، فلم يُسمَح لها بالمرور، كما لم يتم رفضها، وهكذا دوماً لحظة ثابتة لا تتغيّر، فحالهن كحال بلادهن، ضحايا حرب مستمرة، وجحيم لا ينتهي.