الهندسة بين راكد ومشبع!!!

د. خالد ارخيص الطراونة

في ظِل الواقع الذي نشهده والذي يخص دراسة التخصصات الهندسية وفرص العمل للخريجين، وبناء على النشرة الإرشادية لنقابة المهندسين الأردنيين لسنة 2024 فإن ذلك ينذر بمستقبل مبهم لواقع دراسة الهندسة لأغلب الطلبة الراغبين بدراستها. فالأرقام التي تشير لها النقابة من منتسبين حوالي 198.000 بنسبة تصل مهندس لكل 41 مواطنا أردنيا وهي من النسب العالمية الكبيرة على مستوى العالم نسبة الى عدد السكان، فإن أسباب ذلك متعددة وما وصلنا له مرتبط بأبعاد داخلية وخارجية وتنظيمية وإجرائية متعددة.

بداية مفهوم راكد ومشبع في الهندسة بشكل عام مفهوم غير علمي وغير مبني على أسس صحيحة مرتبطة بطبيعة التخصص والتنوع فيه وما يملك الخريج من مهارات قد تؤهله لسوق العمل بعيدا عن درجة الركود أو الإشباع في التخصص، والأمثلة كثيرة ومن الصعب سردها في هذا المقال الشمولي، فما هو راكد سيصبح متحركا وما هو مشبع الآن سيصبح غير مشبع إذا كان هناك تخطيط إستراتيجي مبني على ما نملك وما سنخطط له في المستقبل، فربط مفهوم راكد ومشبع أتت من مفهومنا المرتبط بأعداد الخريجين دون الأخذ بعين الاعتبار المستقبل الواعد لكل تخصص وحاجة السوق المحلي والإقليمي والعالمي، بحيث أصبحت هذه المفاهيم منفرة للطالب وللهندسة ككل، وأصبح الطلبة ينتقلون إلى تخصصات أخرى والتي ستكون أيضا بعد عدة سنوات (راكدة ومشبعة) إذا بقينا نتبع نفس السياسات والمنهجيات في سياسة القبول الموحد، لذا باعتقادي أن الركود موجود في عملية تنظيم القطاع التعليمي الهندسي العام والذي يعد من أعمدة تقدم الدول والمجتمعات، وكما سأوضح في النقاط التالية الأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه.

1. غياب المشاريع الهندسية الكبرى على مستوى الدولة والقطاع الخاص لاستيعاب أعداد أكثر من الخريجين وتراجع التعيينات في مؤسسات الدولة او القطاع الخاص مما أدى إلى زيادة نسبة البطالة في صفوف المهندسين الخريجين.

2. تراجع أعداد المهندسين العاملين في دول الخليج نتيجة للطفرة التي حصلت في هذه الدول واعتمادهم على خريجيهم أو تشغيلهم لعمالة بأقل أجر من دول منافسة أخرى.

3. سياسات القبول الموحد وربط القبول بالمعدل دون الرجوع إلى سوق العمل والحاجة إلى التخصصات المطلوبة، وهذا ينعكس سلباً كمّاً ونوعاً على مهنة الهندسة والخريجين.

4. غياب دور نقابة المهندسين في سياسات القبول الموحد بما يخص أعداد المقبولين أو في سياسات هيئة الاعتماد وإن كان من دور فهو خجول جدا لا يرقى إلى حجم المشكلة.

5. التوسع الأفقي في السماح بفتح تخصصات مكررة في أغلب الجامعات الحكومية والسماح أيضا بفتحها في الجامعات الخاصة مما زاد أعداد الخريجين بشكل مذهل في العقدين الأخيرين وهذه التخصصات متشابهة أيضا في الخطط الدراسية من حيث النوع والشكل في اغلبها، فعلى سبيل المثال تخصص الهندسية المدنية موجود في 30 جامعة حكومية وخاصة ويصل عدد الطلبة في هذا التخصص الآن على مقاعد الدراسة حوالي 5898 طالبا وطالبة موزعين على كافة الجامعات بإلاضافة إلى أعداد أخرى لا تعلم عنهم النقابة خارج الأردن. فهل نحن بحاجة إلى هذه الأعداد في السوق المحلي؟ وهل سياسة التوسع في هذا البرنامج أو البرامج الأخرى كانت مدروسة على أسس علمية صحيحة؟ الجواب بالتأكيد لا، لأن فتح التخصصات أغلبه مرتبط بحاجة غير حقيقية لسوق العمل وقبول طلبة بأعداد كبيرة في الجامعات بعيدا عن النوعية وعن المستقبل الوظيفي للخريجين. ومثال تخصص الهندسة المدنية ينطبق على أغلب التخصصات الهندسية الأخرى مع استثناء لتخصص هندسة التعدين الذي يتواجد في جامعتين فقط (الطفيلة التقنية وجامعة الحسين بن طلال) وهو من التخصصات المطلوبة للسوق الخليجي والسعودية الآن وحتى مستقبلاً في الأردن نظرا للتوسع الذي تنو ي الحكومة به في قطاع الاستثمارات التعدينية، وأجزم أنه لن يكون راكدًا مستقبلا.

6. ما زلنا لا نعطي المهارات الأساسية المطلوبة من لغات ومهارات حاسوبية ومهارات التواصل المتخصصة وإعداد الطالب وبما يتناسب مع التحدي القادم في التخصصات الهندسية وسوق العمل.

7. ضعف التشبيك بين القطاع الحكومي والخاص ومؤسسات التعليم العالي ونقابة المهندسين وفقدان البوصلة بين هذه القطاعات حيث لا يتم حصر ما هي التخصصات المطلوبة وربطها بالأعداد المسموحة بها لقبولها في الجامعات الحكومية والخاصة أيضا، بحيث يكون التنافس على عدد معين لكل تخصص هندسي محدد حسب درجة الإشباع أو الركود إذا “سلّمنا” بمفهوم الركود والإشباع، وأنا شخصيا لست معه، لا أن يبقى “الحبل على الغارب” كما هو حاصل الآن. وهذا الأمر متبع في كافة دول العالم، فمعدل القبول مهم ولكنه ليس الأهم.

8. غياب دور الشركات والمؤسسات الخاصة العاملة في القطاع الهندسي عن أي تنسيق مع مؤسسات التعليم العالي مع استثناء لبعض الجامعات مثل الجامعة الألمانية الأردنية (ولها تنسيق دولي مع ألمانيا) وجامعة الحسين التقنية وجامعة الأميرة سمية ونادرا الجامعات الحكومية. بحيث لا نرى علاقات تشاركية فعلية بتبني طلبة الهندسة واستيعاب المبدعين منهم قبل تخرجهم ليكونوا جزءا من هذه الشركات في المستقبل سواء من حيث التدريب أو التشغيل.

إذا ما الحل؟ ليس الحل بإعلان المشكلة وتعميم مفهود الركود والإشباع من قبل المعنيين، فلا يمكن حل هذا الوضع إلا بإعادة النظر في الإستراتيجيات المرتبطة بالتعليم العالي والموارد البشرية وبقرارات جريئة تكون فيها أطراف المعادلة من مؤسسات التعليم العالي (وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ومؤسسة هيئة الاعتماد وضبط الجودة ومجالس الأمناء في الجامعات الحكومية والخاصة ورؤساء الجامعات وكافة مجالس الحوكمة فيها ونقابة المهندسين والقطاع الهندسي الخاص)، بحيث تنعكس هذه القرارات على كل ما نعاني منه من حيث أعداد المقبولين وربطه بحاجة سوق العمل المحلي أولاً والإقليمي ثانيا والعالمي أيضا، وبما يتناسب مع الواقع والنظرة المستقبلية للقطاع الهندسي التعليمي بشكل عام والفرص المستقبلية في ظل اجتياح التكنولوجيا في كافة مفاصل حياتنا. ويقع باعتقادي الدور الأكبر على نقابة المهندسين صاحبة الولاية على تنظيم مهنة الهندسة في الوطن ليس للمنتسبين لها فقط، بل لتدخل على تنظيم أعداد المهندسين قبل ذلك من خلال المشاركة في صنع واتخاذ القرار في كل ما ذكرت، ولا بد من وضع حلول منطقية من قبل نقابة المهندسين لأصحاب القرار، لا أن يكون الدور الرئيسي في إصدار نشرية سنوية للأعداد وطبيعة التخصص هل هو مشبع أم راكد. وأخيراً مستقبل الشعوب هو التعليم وطلابنا أمانة وطنية في أعناقنا لبناء وطن قوي معتمدا على موارده البشرية وخاصة المهندسين منهم.