الجزائر .. الموقف العربي الاصيل تجاه لبنان

 

مهدي مبارك عبدالله

بتاريخ 18 / 8 / 2024 وفي خطوة حكيمة وشجاعة لمواجهة الحصار وأساليب الابتزاز التي تحاول قوى رجعية محلية وغربية فرضها على لبنان وعلى رأسها امريكا وفرنسا واسرائيل بهدف الضغط على لبنان ومقاومته الباسلة لوقف إسناد جبهة المقاومة في قطاع غزة

وضمن لفتة تضامن فريدة تعكس التزام الجزائر العروبي التاريخي الثابت على مبادئ التضامن العربي كما تؤكد قوة العلاقات الثنائية بين الدول العربية وتعزز مشاعر الاخوة الصادقة حيث جرت بصمت كامل ومن دون اي صخب اعلامي أو ضجيج سياسي وذلك بعد مكالمة هاتفية بين رئيس الحكومة اللبناني نجيب ميقاتي ونظيره الجزائري نذير العرباوي تم الإعلان خلالها عن قرار سيادي للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون يقضي بتزويد لبنان بالوقود في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة وازمة الطاقة الخانقة التي أثرت بشكل كبير على حياة الملايين من مواطنيه في مختلف جوانب حياتهم من الكهرباء إلى النقل والخدمات العامة 

مع هذا الواقع الخطير والمؤلم الذي اصاب لبنان كان لابد من التدخل الجزائري المأمول خاصة بعد إعلان وزير الطاقة والمياه اللبناني وليد فياض أن لبنان سيدخل في العتمة التامة لأسباب لوجستية وأن انتهاء الوقود سيتسبب بإغلاق المرافق العامة ومنها المرفأ والمطار ومحطات ضخ المياه عقب توقف محطات توليد الكهرباء كليا عن العمل بسبب نقص الوقود ولغايات التخفيف من حدة الأزمة ومنح الشعب اللبناني بعض الأمل في تجاوز هذه المرحلة الصعبة وللمساهمة في استعادة النور الى كل ارجاء لبنان بعدما لفه الظلام تدخلت الجزائر العربية بإنسانيتها الجليلة واخوتها الصادقة سيما انها ليست المرّة الأولى التي يغرق لبنان فيها بالعتمة حيث ابحرت الناقلة الجزائرية " عين أكر " التابعة للمجموعة العامة للنفط والغاز سوناطراك من ميناء سككيدة متوجهة إلى لبنان محملة بشحنة أولى تبلغ 30 ألف طن من الوقود وستتبع ذلك شحنات أخرى لاحقا

اللبنانيون بشكل عام يعتمدون في تسيير شؤون حيتانهم العملية على المولدات الخاصة أو البطاريات أو الطاقة الشمسية للتزوّد بالكهرباء بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة منذ عام 2019 التي تتصاعد مع جملة خلافات سياسية حادة تتمثل في شغور منصب رئيس الجمهورية ووجود حكومة تصريف أعمال مؤقتة وشلل مؤسساتي تام 

منذ انتهاء الحرب الأهلية في لبنان عام 1990 لم تتمكّن الحكومات المتعاقبة من إيجاد جل جذري لمشكلة الكهرباء بسبب الفساد واهتراء البنى التحتية والأزمات السياسية المتتالية رغم صُرف مليارات الدولارات في هذا القطاع من دون نتيجة وحتى مع اعادة تشغيل محطات توليد الطاقة من خلال المنحة النفطية الجزائرية المجانية ( هبة غير مشروطة ) فلن يحصل اللبنانيون إلا على ساعات قليلة جدا من الكهرباء في اليوم

الهبة الجزائرية الاصيلة في هذا الصيف الحار وفي وقت حساس لم تهدف الى تحقيق أي مردود سياسي عابر  ولم تنتظر القيادة الجزائرية الشكر والثناء او الاشهار وهي ليست غريبة أو جديدة قفد عبرت الجزائر في أكثر من مناسبة عن استعدادها التام لتزويد لبنان بما يحتاجه من كافة أنواع الوقود للمساهمة في حل أزمة الطاقة المستفحلة منذ عدة سنوات 

 الرد الصريح والواضح للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون على طلب لبنان بالتضامن معه في ازمته من خلال كلمة الوزير ميقاتي في القمة العربية التي احتضنتها الجزائر في تشرين الثاني 2022 كان لافتًا حيث جددت الجزائر تضامنها مع لبنان للحفاظ على أمنه ودعم خطواته لبسط سيادته على أقاليمه البرية والبحرية وخلال آزمة انفجار ميناء بيروت أرسلت الجزائر أربع طائرات وباخرة تحمل مساعدات إنسانية ومواد طبية وغذائية وأطقم من الأطباء والجراحين ورجال إطفاء وخيام ومواد بناء للمساعدة في إعادة اعمار ما تدمر جراء الحادث المروع في بيروت 

العلاقات بين لبنان والجزائر تميزت دائما بالزخم الكبير والاستمرارية خاصة في السنوات الأخيرة عبر تكثيف الاتصالات واللقاءات والتشاور بين الطرفين في أكثر من مجال ومناسبة رغم ما سبق من ازمة الوقود ( المغشوش ) بين البلدين والتي  ساهمت في مرحلة ما في بروز التوتر ببن شركة سوناطراك الجزائرية و بعض الأطراف اللبنانية بعدما وصلت الامور إلى أروقة المحاكم وهو ما دفع شركة سوناطراك إلى مغادرة لبنان 

القرار الحكيم للرئيس تبون يعني أن الاشقاء في الجزائر يفرقون دائمًا بين العتب السياسي و التجاري و ضرورات التضامن عند الحاجات و الأزمات في المقابل لا زال اللبنانيين يتذكرون جيدا ان الجزائر كانت من بين الدول القليلة في العالم التي لم يكن لها فصيلًا سياسيًا او تنظيما عسكريا تستقوي وتناور به في الساحة السياسية اللبنانية خلال فترة الحرب الاهلية حيث ظلت الجزائر على مسافة واحدة من الجميع تدعو الى وحدة لبنان وسلامة ارضه وشعبه ولابد ايضا من استحضار ما قام به الأمير المجاهد عبد القادر الجزائري من مواقف نبيلة ومشرفة في تاريخ لبنان وشعبه 

المبادرة الجزائرية النبيلة ليست مجرد دعم اقتصادي مرحلي بل هي رسالة قوية بأن العلاقات العربية تستطيع أن تكون دعامة حقيقية للتضامن والتكامل بين الدول. وإن وقوفها إلى جانب لبنان في هذه الأزمة يعكس الروح الأخوية الحقيقية التي تربط بين الشعوب العربية ويثبت اكثر أن الجزائر لا زالت تلعب دوراً محورياً في دعم الاستقرار والتنمية في المنطقة فضلا عن مساعيها الحثيثة بمجلس الأمن للدفاع عن مواقف لبنان ومصالحه الحيوية وسيادة أراضيه في وجه الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة

الشعبان الشقيقان الجزائري واللبناني يشتركان في عدد من المقومات على غرار اللغة والدين والماضي والمصير المشترك في ظل تحديات العالم المعاصر ويعتبر الكفاح من أجل التحرر وبناء الدولة الوطنية اكبر قاسم مشترك بينهما إذ تعرضا لنفس الاستعمار وهو الاحتلال الفرنسي الغاشم مع الاختلاف في طبيعة حكمه للبلدين وسياسته الاستعمارية لإخضاع شعبيهما  وعلى الرغم من ظروف لبنان الصعبة التي مر بها منذ استقلاله -الذي حققه قبل الجزائر بما يناهز العشرين سنة إلا أنه رفع شعار دعم الجزائر في نضالها لأجل تقرير مصيرها وما مظاهر الدعم اللبناني المتواصلة للثورة التحريرية الجزائرية الا اكبر دليل على  وحدة المصير المشترك

يذكر ان الجزائر من الدول الغنية بالموارد الطبيعية وخاصة النفط وهي المصدّر الأفريقي الأول للغاز الطبيعي والسابع عالميا وقد أبدت استعدادها لمساعدة الدول الشقيقة في الأوقات الصعبة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي تعاني منها واليوم الجزائر بقيادة رئيسها تبون تجسد نموذجاً عروبياً في دعم أشقائها في الدول العربية خاصة التي تتعرض منها للابتزاز والاستهداف من النظم الاستعمارية الغربية وأدواتها المشبوهة في المنطقة

مرة اخرى نؤكد بان هذه المواقف الجزائري المشرفة و المتقدم ليس غريبة على القيادةً والشعب في الجزائر التي لطالما كانت صوتاً عربياً حراً ورائداً في دعم قضايا الأمة العربية وأحرار العالم بمواقفها الشجاعة وانحيازها إلى جانب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني والمقاومة الباسلة في كل الساحات وهي تقف سداً منيعاً في وجه المؤامرات التي تستهدف وحدة الأمة وليست هذه المرة الأولى التي تقف فيها الجزائر مع قضايا الأمة العربية وبخاصة قضية فلسطين. حيث شاركت بالرجال والسلاح والأطباء لمداواة جرحى الحروب وقد كان بين صفوف الفدائيين الفلسطينيين الذين قاتلوا الصهاينة في جنوب لبنان شهداء ومقاتلون ابطال جزائريون كما كان هناك فلسطينيون وسوريون وسعوديون ولبنانيون وأردنيون وتونسيون ومصريون وغيرهم إبان حرب تشرين في عام 1973 على جبهات القتال المصرية والسورية  

الهبة الجزائرية العظيمة تذكرنا بمواقف وعهد الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين الذي كانت له بصمات واضحة ومواقف ثابتة في مساندة القضايا العربية العادلة حين هب عدة مرات لدعم الثورة الفلسطينية عسكرياً وماليا في مواجهتها للعدوان الصهيوني اضافة الى ارساله قوة جزائرية لتقاتل إلى جانب مصر غير مبالي آنذاك بكل الضغوطات والتهديدات الغربية واليوم في عهد الرئيس تبون لم يتوقف دعم الجزائر لقضايا فلسطين والدفاع عن حقوق الفلسطينيين والعرب وقضايا الشعوب التحريرية وفي العام 2012 وقفت الجزائر بقيادة الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة إلى جانب سورية وعارضت وقف عضويتها في الجامعة العربية حين وقف معظم العرب خانعين أمام القرار الأميركي الذي أراد تقسيم المنطقة بما يتناسب والرغبة الصهيونية بإذكاء الفتنة الطائفية والإثنيات العرقية 

الحقيقة الراسخة أن الرئيس الجزائري الحالي عبد المجيد تبون أثبت مواقفه المعادية للصهاينة وأنه رجل قومي عربي وطني لم يخضع للغرب وإملاءاته ووقف بصلابة ضد سياسات التطبيع مع اسرائيل وبعد عملية طوفان الأقصى لم يتغير موقف الجزائر الحر وخاصة بالنسبة لفلسطين ففي الثامن من تشرين الأول 2023 وبعد العملية مباشرة عبر الرئيس تبون عن تأييده المطلق لطوفان الأقصى واعتبره كسر للأسطوانة الإسرائيلية المزعومة بأنها قوة لا تقهر وبداية امل لنهاية كيان الاحتلال الصهيوني المتغطرس

 ولا يفوتنا ايضا التذكير بتصريحات الرئيس تبون أمام البرلمان الجزائري يدعم بلاده لفلسطين ( ظالمة أو مظلومة ) وقوله إن الجزائر لن تتخلى عن فلسطين وشعبها كما وصف ما يحدث في غزة من جرائم حرب ابادة كاملة الأركان بانه وصمة عار على جبين البشرية وخصوصا العرب وفي ذات السياق خرج الجزائريين بمسيرات شعبية مليونية في أكثر من خمسين ولاية دعماً لغزة والمقاومة منذ اليوم الاول لعملية السابع من اكتوبر العام الماضي

في الختام نتوجه كشعوب عربية حالمة بأمة ناهضة بخالص الشكر والتقدير لسيادة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لتضامنه ودعمه ووقوفه بجانب لبنان الشقيق بتزويده بشحنة عاجلة من الفيول لتشغيل محطات توليد الكهرباء في ظل الظروف العصيبة التي يمر بها منذ عام 2019 والتي انهارت فيها قيمة الليرة اللبنانية بشكل كبير وارتفعت الأسعار بواقع جنوني ناهيك عن حالة التوتر القائمة مع استمرار تبادل إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل وقد لقيت المبادرة القيمة استحسان كبير وصدى واسع لدى كافة أطياف الشعب اللبناني وهم يرددون هكذا يجب ان يكون تعاضد الأشقاء العرب في زمن المحن والشدائد

كاتب وباحث متخصص في العلوم السياسية

mahdimubarak@gmail.com