تشبيه سخيف

مثلما توجد تشبيهات أدبية دقيقة، فيها متعة وإبحار في اللون والطّعم والرائحة واللمس والصورة، كذلك توجد تشبيهات سياسية يُقصد فيها توضيح أو تقريب موقف أو حالة معيّنة.
هنالك مَنْ شبّه ما حدث لـ«حزب الله» في الأسبوعين الأخيرين، تفجيرات الهواتف، وملاحقة قيادات الصَّف الأول، بهزيمة الخامس من حزيران عام 1967، واشترك في هذا التشبيه عربٌ، منهم من حزنوا وأُحبطوا وغَضبوا، بعدما بنوا في مخيّلتهم حصانة أكثر بكثير من الواقع، ولم يتخيّلوا أن يكون الاختراق بهذا العمق والانتشار، كذلك فإن الإعداد والمِهنيّة والقدرات التي أظهرتها المخابرات العسكرية والموساد فاقت الخيال العِلمي، وعصفت بآلاف من كوادر الحِزب، أكثرهم من النُّخبة.
هنالك من شمتوا، لهم ثارات وحسابات منذ الثّورة السُّورية، بعضهم شكر من سمّاه تحبُّباً بأبو يائير على إنجازه الكبير، ووزّعوا الحلوى في الشّوارع، وأقام بعضهم مسيرات احتفالية عند تأكيد نبأ اغتيال السّيد حسن نصر الله، ومن هؤلاء مثقّفون وفنانون وإعلاميون معروفون، وهذا غريب ومقزّز، والبعضُ شامتٌ وحاقد لحسابات لُبنانية داخلية، أو حسابات مذهبية ضيّقة، فقد أخلَّ حِزبُ الله في التوازنات الطائفية المُكرّسة منذ أجيال. البعض شبّه ضربة الهواتف وما جرى بعدها بما حدث عام 1967، وأوّل من أطلق هذا التشبيه والتقييم هو الإعلام الإسرائيلي المجنّد في غالبيته إلى جانب نتنياهو، المتعطّش إلى صورة النّصر والمجد القديم، الذي يسعى إلى رفع المعنويات والتقليل من شأن المقاومين، وهذا طبيعي، وحقٌ لهم، فالحرب هي الحرب، والإعلام أحد أهم أذرع الحرب، ومن وظائفه بثُّ روح الهزيمة لدى العدو، وتشكيكه بقدراته وبسلاحه وبقادته، وهذا لا يقلُّ فتكاً عن القنابل العملاقة.
روّج الإسرائيليون وبعض العرب المتعجّلين لهزيمة المقاومة لهذا التشبيه، لأنّ كلَّ يوم يمرُّ من غير استسلام وتسليم يسبّبُ لهم شعوراً متجدِّداً بالإحباط.
بهذا الإنجاز طمح نتنياهو إلى صورة أمجاد حزيران القديم، حيث التقط فيها قادة جيش الاحتلال «الأسطوريين» مثل موشيه ديان وموطي غور وحاييم بارليف وغيرهم، صُوَراً على حافة قناة السّويس، وعلى ظهر ناقلة جُند في باحة الأقصى، وعلى قمّة في جبل الشّيخ، وفي داخل الحرم الإبراهيمي في الخليل.
نتنياهو أخذ له صورة على مدخل أحد الأنفاق في قطاع غزة، وهو يرتدي واقي الرّصاص والخوذة، وأخرى في خيمة على محور فيلادلفيا، وحوله مئات الجنود، ومؤخّراً وبمناسبة عيد العُرْش، احتفل بكأس نبيذ، بعد إعلان وتأكيد اغتيال السَّيد حسن نصر الله، ليستعيد صورته التي شوّهتها طعنات السّابع من أكتوبر الماضي.
ممكن تضليل الأجيال الصاعدة من العرب ومن الإسرائيليين ومن أنصارهم عبر العالم، ممن لم يعاصروا هزيمة حزيران، وتشبيه ما حدث اليوم بذلك اليوم، ولكّنه تشبيه ضعيف وسخيف وركيك ولا يمتُّ للمشبّه به بِصِلة.
بلا شك أنّ نتنياهو ورجاله تعجلوا جدّاً في هذا التشبيه، ومثلهم العرب من المعجبين بغطرسته في السِّر والعلن، كالعبد المعجب بِتسريحة شَعرِ جلّاده.
هزيمة حزيران كانت مُفجعة بحجم الأمل والحماسة التي كانت سائدة في تلك الأيام بتحرير فلسطين، كانت إسرائيل مولوداً خديجاً بعد، وكان الغربُ يخشى عليها من نَزلة بَردٍ ومن نسمة هواء، يتنافسون على حمايتها ورعايتها في عناية مركّزة، وبينما كانت قواتنا «تتقدّم إلى تل أبيب» في ذلك النهار، وطائرات العدو «تتساقط كالذّباب» فوق سيناء، فجأة نهض الخديج المسكين من مهده، وافترس كلَّ من كانوا حوله وهو يُقهقه، فأذهل الصديق والعدو وحتى نَفسَه.
جاءت الخيبة بحجم الآمال الكبيرة بعودة العرب إلى مكانتهم وحجمهم الضائع في التاريخ، هطل مطرٌ من قار وأوحال على العرب، وانكشفت العورات، واتّضحت السّذاجات، وفوضى القيادة والإدارة والفساد، ورقصت تل أبيب وأخواتها احتفاء بقهر «أعداء إسرائيل»، ونُصبت مخيّماتٌ جديدة للاجئين الجُدد، وجلّل الأمة عارٌ لم يُمح بعد.
لقد مرَّ عامٌ على ما أطلقت عليه حركة حماس معركة «طوفان الأقصى»، وما تسمّيه إسرائيل «السُّيوف الحديدية»، وما زالت المقاومة في قطاع غزّة تنبضُ وتؤلم الاحتلال بصورة شبه يومية، فيردُّ بجرائم حرب ضد المدنيين، لم يعرف التاريخ الحديث في مثل وحشيّتها وحقارتها.
تدخّلت أقوى الإمبراطوريات في التاريخ، وقدّمت من المساعدات العسكرية والاقتصادية ما جعل بعض المسؤولين في الإدارة الأمريكية يضجّون، فهذه المساعدات ما كانت لتقدّم لولاية أمريكية إذا ما نُكبت بالأعاصير والبراكين والزلازل، لم يبق سوى إجراء استفتاء بين الإسرائيليين للقبول أو الرّفض بأن يكونوا الولاية الواحدة والخمسين! لقد بات اعتماد إسرائيل في وجودها كاملاً على أمريكا، بعدما ساد انطباع كبيرٌ باستقلالها وقدرتها على البقاء من غير جَميل أمريكا والغرب، طبعاً يرفض الإسرائيليون أن يكونوا ولاية أمريكية، لأنّهم أكثر من ولاية، وهذا أربح بكثير، هكذا يبقى التنافس بين عشّاقها الكثيرين لإرضائها وحمايتها، إضافة إلى أمريكا.
أما حزب الله الذي يتلقى دعمه الكامل من إيران، ولا يستطيع أن يستمر بغير ذلك، فقد مرّ عام كامل بأيامه ولياليه وساعاته وهو يشاغل إسرائيل في وجبات يوميّة، ويفرض على مستوطنات الشّمال إخلاءً قسريًا، لم يحدث في تاريخ ولاية إسرائيل منذ تأسيسها.
لا شك أنّ ضربة الهواتف نزلت مثل صاعقة مرعبة على أنصار حزب الله ومقاتليه وقيادته، وكانت بالفعل بثقل وخيبة تدمير الطيران المصري كلّه في الدقائق الأولى من حرب الخامس من حزيران على أرضه وقبل أن يشغّل محرّكاته، وصحيح جدّاً ما قاله السّيد نعيم قاسم بأنّ دولاً كبيرة ما كانت لتتحمّل مثل هذه الضربة، بل ويختلُّ توازنها بأقل من هذه الضربة بكثير، ولكنّ الحزب عبر المرحلة الحرجة إلى مرحلة الإنعاش والتعافي.
بعد عام من المواجهة، إسرائيل تُجنّد طالبي اللجوء من أفارقة وغيرهم كمرتزقة، (الله لا يشبِعكم مرتزقة)، مقابل تسهيل الاعتراف بهم كمواطنين في الدّولة! هذا يشبه شرط «الدّفع قبل الرّفع»، يعني ممكن للمسكين طالب اللجوء أن يُقتل في حرب مملكة إسرائيل الكبرى، كي يحصل على تسهيلات للبقاء كمواطن فيها، وتخيّلوا هذا المسكين الذي سيصبح مرتزقًا كيف سيعامل أبناء الوطن الأصليين، أو كيف سيواجه ذلك المقاتل الشّرس المؤمن بقضيته على أرضه في فلسطين ولبنان، وبأية نفسيّة مشوّهة لا تنتمي لشيء إلا لصراع البقاء كما في الأدغال، يدفعونه إلى معركة كضبع جائع يبحث عن فريسة لأجل بقائه.
توظّفُ دولٌ عظمى أساطيلها في البحر والبر والجو، ومرتزقتها، وإمكاناتها الاستخبارية، وهذا يشمل عدداً من أجهزة المخابرات العربية والدولية، والجميع يصبُّ في ضاحية في شمال تل أبيب، وإلى أحضان نتنياهو والجهاز المحيط به، ورغم ذلك، المقاومة مستمرّة.
تشبيه ما جرى ويجري بحرب حزيران سخيفٌ جداً، هذه الكريهة لم ولن تُحسم، حبالها ومشانقها طويلة جداً، سوف يملُّ الناس من إحصاء أعداد الضحايا، وهي كارثة نازلة على جميع شعوب المنطقة والوافدين إليها، بمن فيهم المرتزقة من كلّ لون وعرق، وليس على طرفٍ دون غيره من أطرافها.

سهيل كيوان