فضاءات المكان في رواية "ظل الغراب"

 

قراءة منذر كامل اللالا

ليس للرواية آفاق محددة عبر ملحمة الوجود لإنساني، كما لا تبدو لها نهايات ذات قالب ثابت في خضم الحاضر أو المستقبل المنظور، ففي عالم محكوم بمبدأ التناقضات، وما نتج عن ذلك من ثنائيات في خانتي السلب والإيجاب، كانت الرواية وما زالت الوسيلة التي لا خيار في استخدامها، من أجل كسر وطأة الواقع الصعب، ومن ثم صنع الأحلام التي بواستطها فقط، يظل الإستمرار في التواصل والتفاعل مع الحياة أمرا مبررا ومعقولا، حتى في أشد لحظات العاصفة عصافا.

""ظل الغراب" رواية للكاتب سعيد الصالحي تندرج ضمن إطار الواقعية السحرية لإحتوائها على أحداث و وقائع تندرج تحت هذا المسمى، ومنها نشوء علاقة مع الغراب" أبو توفيق" حيث قامت الحبكة الرئيسة في الرواية على هذه الجزئية، مع اهتمام خاص بالمكان بسبب موضوعها المتمثل في غربة البطل في بنغلادش، وارتباط أحداثها بأجواء الطبيعة، مثل النهر، والمقبرة، والحديقة. يُشكّل عنوان الرواية "ظل الغراب" عتبة دلالية تثير لدى القارئ تصورات مكانية مشحونة بالغموض والخوف والخطر، مما يُضفي على المكان دورًا يتجاوز كونه خلفية للأحداث، ليصبح جزءًا أساسيًا من بناء الحالة الشعورية للبطل. فالغراب برمزيته الأسطورية، التي ترتبط بالموت والتحذير، يُلقي بظله على فضاءات الرواية، مضيفًا طابعًا من الوحشة والغربة. عبر هذا العنوان، يرسم الصالحي إطارًا ذهنيًا يُغلف القارئ بهالة من التشويق والترقب، مما يعمّق البعد المكاني والنفسي في العمل الروائي.

تدور أحداث الرواية بشكل رئيسي في دكا، عاصمة بنغلادش، خلال فترة الحجر الصحي لجائحة كورونا. ويتفرّد بطلها، الطيب، الذي يجد نفسه وسط أحداث غير متوقعة تكلفه بنبوءة يسعى لتحقيقها رغم الصعاب، وترافقه شخصية "أبو توفيق"، الغراب الذي يطلعه على أسرار الكتب الصوفية المخبّأة داخل النهر، ويطلب منه إعادتها إلى مكانها. تتوالى الأحداث في إطار مشوق يشمل الاختطاف والمطاردة وصولًا إلى مصر، حيث يُنهي الطيب مهمته.

فضاءات المكان في الرواية

تتعدد فضاءات المكان وتتنوع في الرواية لتشمل المدينة والشوارع والمكاتب والحدائق والمتاحف والأسواق والمقابر والمنازل، لكن الروائي يركّز على أماكن رئيسية تُعدّ محطات مهمة في سير أحداث الرواية، ومنها: الشرفة، والحديقة، والمقبرة.

تمثل الشرفة، على وجه الخصوص، مكانًا محوريًا في الرواية. ورغم وصفها بأنها "واسعة"، فإنها تحمل دلالات أعمق، فهي ليست مجرد فضاء محدود تتحرك فيه الشخصيات، بل تصبح معبرًا عن نفسية البطل، حيث تنسجم مع تطورات الأحداث، وتجسد صراعه مع الغربة وكآبته. تعدّ الشرفة بالنسبة للبطل نافذة يطلّ من خلالها على الحياة، إذ تصبح بمثابة "عرش" له، كما أشار الكاتب في الصفحة 11: "في زاوية الشرفة كان المقعد، هذا المقعد سيصبح في الأيام القادمة عرشي ورمز حكمي وسلطاني في هذه الشقة." وبذلك، تتجذر الشرفة كملاذ للبطل، ومتنفسٍ للتأمل وفضاء للحياة الموازية في ظل الحجر الصحي. ففي الصفحة 12 يصف البطل لحظة تأمله لسكون الماء في البحيرة، واصفًا تجربته بالقول: "تقترب الشمس من الغروب، حملت سجائري معي إلى الشرفة وجلست أتأمل سكون الماء في البحيرة، قعدت على عرشي الخشبي...، أخذت أنفث سحاب سجائري في كل مكان كأنني محمد الفاتح".

وتعدّ الشرفة بهجة صباحات البطل ومصدر إلهامٍ متجدد. يقول: "بادرت مدبر المنزل بتحية الصباح، وطلبت منه إحضار القهوة إلى الشرفة... جلست أتأمل البحيرة والأشجار وطيور العقعق والببغاوات وهي تحلق بألوانها الزاهية... "، كما أنّها مكان للقلق والتوتر أحيانًا، مما يتماشى مع الحالة النفسية للبطل ويمدّ الرواية بأجواء من التشويق. يقول: "جلست في الشرفة أنادم القهوة والسجائر، أنتظر نتيجة الاجتماع التاريخي للغربان...".

تتعدى العناية بوصف الشرفة وأثرها النفسي على البطل إلى الاهتمام بفضاءات أخرى مثل الحديقة والأشجار، بل وحتى بما "تحت الأرض"، ما يُضفي بعدًا فلسفيًا يختصر رحلة الحياة بين السماء والأرض وما تحتها. يشير الروائي هنا إلى الصراع بين الخير والشر، وبين الذات المغتربة وتوقها للحرية والسلام الداخلي، جامعًا بين الأمكنة المفتوحة والمغلقة برابط مشترك يجسد طبيعة الإنسان وتفاعله مع محيطه.

الحدائق والأشجار: لم تكن الحدائق في الرواية مجرد خلفية للأحداث، بل حظيت باهتمام خاص من الكاتب، حيث ظهرت كعنصر محوري يتداخل مع الدلالات النفسية للشخصيات. فقد كانت متنفسًا للبطل وفضاءً تأمليًا يساهم بفاعلية في تطور الأحداث.

فيما يتعلق بالتأثير النفسي للحدائق والأشجار على بطل الرواية، برزت كملاذ يبعث الألفة والسعادة، ليس فقط على نفسه، بل أيضًا على نفوس زوارها. يقول الكاتب: “ ومررت بشارع الشجار الوردية الذي يشعرني بالسعادة كلما ممرت به وشاهدت أشجاره، دخلت الحديقة الصغيرة، كانت الحديقة مزدحمة بالناس البسطاء الذين يتبادلون معك الإبتسامة بمجرد أن تلتقي عيناك بأي أحد منهم، شعرت بالألفة في الحديقة..”

كما كانت الحديقة وجهته الأساسية خلال لحظات الملل أو الكآبة، حتى في الأجواء الصعبة كالمطر الغزير. يقول: “الملل في كل مكان، وفجأة قررت أن أغادر الشقة نحو الحديقة، صعق الفتى وحاول إقناعي بأن هذه الأجواء خطرة، وكثيرا ما تضرب الصواعق ومن مسافة كبيرة، ولكنني كنت أشعر برغبة عارمة للخروج والسير تحت المطر...”

وفي موقف آخر، حين كان البطل يمر بحالة نفسية متأزمة، كانت الحديقة ملجأه للبحث عن التوازن. يقول: “صباح متجهم، ذلك الذي تشرق شمسه من بين غمام الغم والقهر، ارتديت ملابسي وطلبت من السائق أن يأخذني إلى أي حديقة، فأنا لست على طبيعتي اليوم، كأن شيئًا مات في داخلي ويجب أن أسرع لإخراجه وأدفنه قبل أن يجهز على ما تبقى من حياة.. كانت حديقة جميلة ومناسبة لأدفن فيها كل شيء قتل بداخلي هذه الرحلة..”

أما في وصف جمال الحدائق، فقد أضفى الكاتب مشاهد تبعث السكينة والبهجة، حيث يقول: "كانت حديقة جميلة، تحتوي على أنواع عديدة من الأشجار كثيفة الأغصان، وكانت الطيور الملونة تحلق في كل مكان...كان منظر الأشجار يبعث على السعادة والاطمئنان".

بهذا، نجح الكاتب في تصوير الحدائق كعنصر حي يضفي على الرواية عمقًا نفسيًا وجماليًا.

في خاتمة رواية "ظل الغراب" للروائي سعيد الصالحي، يتجلى عمق ارتباط الفضاء المكاني بالحالة النفسية والشعورية للبطل، مما يبرز براعة الكاتب في المزج بين الواقعية السحرية واستبطان الذات الإنسانية. من خلال توصيفه الدقيق للشرفة، والحدائق، والمقبرة، وأماكن أخرى، نجح الصالحي في جعل المكان شريكًا حقيقيًا في سرد الحكاية، حيث يعكس المكان حالتي الغربة والبحث عن الذات، اللتين تهيمنان على مسيرة البطل.

لقد قدّم الروائي عبر هذه الفضاءات رحلة داخلية تتراوح بين الألم والأمل، وبين الوحشة والسكينة، مسلطًا الضوء على قدرة الطبيعة والمكان على تخفيف وطأة الغربة والانعزال. كما أضفى حضور الغراب "أبو توفيق" بُعدًا رمزيًا فريدًا يدمج بين الواقع والأسطورة، مشددًا على أن الغربة ليست مجرد انفصال جغرافي عن الوطن، بل هي أيضًا رحلة معقدة داخل أعماق النفس.

بهذا، تنجح الرواية في أن تكون شهادة أدبية على تأثير المكان في تشكيل المشاعر والأحداث، وفي دعوة القارئ للتأمل في العلاقة بين الإنسان وفضاءاته، تلك العلاقة التي قد تبوح بما لا يُقال، وتداوي ما لا يُشفى. "ظل الغراب" ليست مجرد رواية عن الغربة، بل هي عمل يمزج بين العمق الإنساني والسحر السردي، ليترك أثرًا يمتد في ذهن القارئ طويلاً بعد إسدال الستار على الحكاية.