سقط نظام الأسد… والعراق ينأى بنفسه
في عام 2020، أدى وقف إطلاق النار الذي توسطت فيه روسيا وتركيا إلى إنشاء خطوط مواجهة في شمال غرب سوريا، وهي المنطقة التي عرفت باسم حزام خفض حدة القتال. ومنذ ذلك الحين، وصفت الحرب في سوريا بأنها «صراع مجمد». والنتيجة كانت تضاؤل الاهتمام، وتحول المجتمع الدولي إلى حد كبير إلى الخيار الأسهل المتمثل في إدارة الصراع، بدلاً من حله. كما حولت بعض الحكومات انتباهها إلى أزمات أخرى، بينما سعت حكومات أخرى إلى التطبيع مع الأسد، على أمل التخفيف من دوره المزعزع للاستقرار في المنطقة، وتسهيل عودة اللاجئين السوريين.
وفي الوقت الذي تنفس فيه مراقبو الشرق الأوسط الصعداء بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل، اشتعلت حرب سوريا من جديد بكثافة مفاجئة في 27 تشرين الثاني/نوفمبر. إذ شنت جماعات المعارضة السورية هجوما عسكريا حقق نتائج مذهلة، حيث استولت على مساحات شاسعة من الأراضي في محافظات حلب وحماة ودير الزور والسويداء ودرعا والقنيطرة ومحيط مدينة حمص في غضون أيام.. واستعادت المعارضة المسلحة بعض المناطق واستولت على مناطق أخرى لأول مرة في تاريخ الصراع السوري.
تساقطت المدن السورية مثل أحجار الدومينو بيد فصائل المعارضة المسلحة التي توزعت إلى ثلاث جماعات؛ أولها وأهمها «هيئة تحرير الشام» والفصائل المتحالفة معها. والهيئة كما يعرف المراقبون هي فصيل منشق عن تنظيم «القاعدة»، ثم انشق لاحقا عن»تنظيم الدولة الإسلامية» (داعش) بعد مبايعة أبو بكر البغدادي ثم الانقلاب عليه، ليطرح أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) مؤخرا قيادته لفصيل سني يقاتل ضد النظام، ويحاول أن يصور نفسه بأن لديه أطروحة جديدة منقطعة الصلة مع ماضيه الإرهابي. الهيئة تحظى بدعم ومباركة أنقرة بينما تضعها واشنطن على قائمة الارهاب، وترصد مكافأة مالية قدرها 10 ملايين دولار ثمنا لرأس الجولاني. أما الفصيل الآخر الذي بات يلعب أدوارا مركزية في التصعيد الحاصل في سوريا فهو قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الكردية التي حظيت لسنوات بحكم ذاتي في مناطق روج آفا (كردستان سوريا) وبتنسيق مع النظام السوري ودعم أمريكي يقوم على مواجهة تنظيم الدولة (داعش) ومنع تمدده مجددا في البادية السورية، لكن هذه القوات واجهت طوال الحرب السورية عدوا شرسا هو حكومة أردوغان المتشددة تجاه طموح الأكراد الساعي إلى وطن قومي، حيث وضعت أنقرة قوات سوريا الديمقراطية على قائمة الإرهاب، باعتبارها ذراعا عسكريا لحزب العمال الكردستاني التركي. مع تصاعد موجة الصراع الأخير حصلت (قسد) على أراضٍ جديدة واسعة دون قتال، وتقدمت قواتها لأول مرة غرب الفرات، وسيطرت على المناطق التي انسحبت منها قوات النظام، بعد أن سلمتها دون قتال لـ(قسد) في محافظات حلب وحماه، كما سيطرت القوات الكردية على محافظة دير الزور بالكامل، وبضمنها المعبر الحدودي المهم مع العراق. كذلك حال فصائل المعارضة التي كانت قد دخلت في مصالحات مع النظام، والتي نشر على أساسها سيطرته على الجنوب السوري في محافظات السويداء ودرعا والقنيطرة، إذ تحركت هذه الفصائل منتفضة ضد النظام وأخرجت القوات الحكومية من مدنها دون قتال، كما حدث في السويداء لتحل قوات المعارضة السورية في المدينة، أو بمواجهات مسلحة كما حدث في ريف درعا الشمالي، حيث أعادت القوات الحكومية انتشارها في أحزمة مواجهة للدفاع عن العاصمة دمشق في الجبهة الجنوبية، حيث باتت قوات المعارضة على بعد 20 كم عن العاصمة دمشق.
المحصلة هي كماشة الفصائل المعارضة والمنشقة عن حكومة دمشق التي استولت على الشمال الشرقي، والشمال الغربي وجنوب البلاد لينحصر الوجود الحكومي في وسط البلاد المحيط بالعاصمة، المنقطع عن الوجود الاستراتيجي في الساحل السوري، حيث توجد قاعدة حميميم الجوية الروسية في اللاذقية والقاعدة البحرية الروسية في طرطوس. في موجة التصعيد الاخيرة في الحرب السورية بدا ضعف دعم حلفاء نظام دمشق واضحا، إذ انشغل الروس بشكل واضح في الحرب الأوكرانية، التي استحوذت على أغلب تركيز موسكو. وكان نشر القوة الجوية الروسية خلال الهجوم الأخير أضعف بكثير من القصف المكثف في فترة ما قبل وقف إطلاق النار. وكان هذا الافتقار إلى الدعم الجوي عاملاً حاسماً في الانهيار السريع للنظام في مواقع رئيسية. ولم يكن توقيت الهجوم، الذي تزامن مع وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل، عرضيا، إذ أدت سنوات من الغارات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت حزب الله والقوات والبنية التحتية الإيرانية داخل سوريا إلى تآكل قدراتهم بشكل مطرد. كما تمت إعادة نشر العديد من مقاتلي حزب الله الذين دعموا قوات الأسد سابقا في لبنان للدفاع ضد الهجمات الإسرائيلية، ما ترك دفاعات النظام ضعيفة في شمال غرب سوريا.
الموقف العراقي الرسمي بدا واضحا في عدم رغبته بالتورط بالحرب السورية، وأكد السوداني تواصل الجهود السياسية والدبلوماسية، التي يبذلها العراق، من أجل حفظ الأمن في سوريا
الموقف العراقي الرسمي بدا واضحا في عدم رغبته بالتورط بالحرب السورية، إذ أكد رئيس الوزراء محمد شياع السوداني على تواصل الجهود السياسية والدبلوماسية، التي يبذلها العراق، من أجل حفظ الأمن في سوريا، الذي ينعكس بشكل مباشر على الأمن في سائر بلدان المنطقة. كما شدد على أهمية التنسيق مع الدول العربية الشقيقة، للخروج بموقف موحد تجاه تحديات المنطقة، وفي مقدمتها التطورات في سوريا. ويبدو واضحا من هذا الكلام رغبة السوداني في عدم الانخراط الجاد في الحرب السورية الدائرة التي يبدو أن نتائجها ستفرز واقعا مختلفا في القريب العاجل. كما أكدت الحكومة العراقية، يوم الجمعة 6 ديسمبر/كانون الأول الجاري، أن العراق لا يسعى للتدخل العسكري في سوريا. وقال المتحدث باسم الحكومة باسم العوادي: إن «ما يحصل في سوريا معقد وأمنها القومي يؤثر على العراق». وأضاف: «سنعزز العمل السياسي والدبلوماسي والإنساني لمواجهة التطورات»، معبرا «أن تقسيم سوريا خطا أحمر للعراق». وأكد، أنه»يجب التحرك سياسيا لاحتواء الأزمة في سوريا وما يحصل في سوريا بحاجة إلى توافق دولي وإقليمي». وشدد على، «أن العراق لا يسعى إلى التدخل العسكري في سوريا».
أما فصائل الحشد الشعبي المتكونة من ميليشيات شيعية فقد نأت بنفسها عن التدخل بشكل رسمي، إذ نفى رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض دخول الحشد الشعبي إلى مناطق سوريا. وقال في لقاء خاص مع قناة العراقية الإخبارية: «إن ما يحصل في سوريا له انعكاسات مباشرة على الأمن القومي العراقي»، مبينا أن «الكيان الصهيوني يريد أن يقود المنطقة بالصراع والسلاح». وأضاف أن «الحشد الشعبي قوة رسمية تأتمر بإمرة القائد العام للقوات المسلحة»، نافيا بشكل قاطع «دخول الحشد الشعبي إلى مناطق سورية». لكنه عاد وحذر من خطورة تمدد العصابات الإرهابية الموجودة في سوريا اليوم في سيناريو مشابه لما حصل عام 2014، وأكد جهوزية القوات العسكرية والأمنية التي كثفت وجودها على الحدود العراقية السورية لتقف سدا مانعا بوجه الإرهاب إذا فكر بالدخول الى العراق مرة اخرى.
كما دعا الزعيم الشيعي العراقي مقتدى الصدر يوم الخميس 5 ديسمبر الجاري الحكومة والفصائل العراقية المسلّحة إلى «عدم التدخل» في ما يحصل بسوريا مطالبا الحكومة بمعاقبة من يخرق الأمن. وشدّد في منشور على منصة «إكس» على؛ «ضرورة عدم تدخل العراق حكومة وشعبا وكل الجهات والميليشيات والقوات الأمنية في الشأن السوري كما كان ديدن بعضهم في ما سبق». وطالب «الحكومة بمنعهم من ذلك ومعاقبة كل من يخرق الأمن السلمي والعقائدي».
من جانب آخر وفي موقف نادر الحدوث دعا زعيم هيئة تحرير الشام أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني في رسالة متلفزة إلى النأي بالعراق عن الحرب السورية، ومنع إرسال مقاتلين من الحشد الشعبي لمساندة قوات النظام السوري. وظهر الجولاني في مقطع فيديو على تلغرام، قال فيه؛ «هناك الكثير من المخاوف والأوهام التي يظن بها بعض من الساسة العراقيين على أن ما يجري في سوريا سيمتد إلى العراق. وأنا أقول جازما هذا الأمر خاطئ مئة في المئة». وتابع «نشد على يد السوداني أن ينأى بالعراق من أن يدخل في أتون حرب جديدة مع ما يجري في سوريا». وطالبه بأن «يقوم بواجبه في منع تدخل الحشد الشعبي العراقي في ما يجري في البلاد للوقوف في وجه النظام الزائل».
لكن يبقى الموقف العراقي، الحكومي والشعبي، متوجسا من الفصائل التكفيرية في سوريا نتيجة ماضيها الإرهابي القريب الذي شهد مآسيه العراقيون الذين لم تندمل جروحهم بعد مما حصل على يد تنظيم الدولة (داعش) الإرهابي.
صادق الطائي
كاتب عراقي