سوريا: من الثورة إلى الدولة… معجزة تستحق الاكتمال

سقوط النظام السوري ظل استحقاقاً واجباً منذ انطلاق الانتفاضة الشعبية في سوريا ربيع 2011، وابتداء شرارة الاحتجاجات واستشهاد أوائل الشبان النشطاء في مدينة درعا، ثم انتقال التظاهرات إلى بقية المحافظات السورية بلا استثناء. ولاح مراراً أن طيّ صفحة 50 سنة ونيف من سلطة الاستبداد والفساد، التي أدارها حافظ الأسد ووريثه من بعده، يدنو بمعدلات تتزايد تارة وتتناقص تارة أخرى، تبعاً لسياسات محلية وإقليمية ودولية وجيوسياسية تراوحت خياراتها بين الضغط الناعم على النظام، أو التعايش معه، أو مساندته عسكرياً ومادياً ودبلوماسياً إلى درجة التدخل المباشر لإنقاذه.
وخلال 13 سنة من التمسك بالسلطة تحت أي ثمن فادح، استخدم النظام السوري كل ما يملك من أسلحة فتاكة لقمع الحراك الشعبي السلمي، بما في ذلك الكيميائية والجرثومية والبراميل المتفجرة، قبل أن يستولد تنظيمات جهادية مسلحة، أو يفسح المجال لإدخالها في قلب المشهد العسكري المحتدم، أو يفتح الحدود السورية أمام تنظيمات مذهبية وإرهابية، وصولاً إلى الاستعانة بقوى أجنبية ومنحها معسكرات ومطارات وقواعد بحرية، حتى باتت سوريا مرتعاً لاحتلالات إيرانية وروسية وأمريكية وتركية إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي في هضبة الجولان.
وعلى الصعيد الإنساني خلّف النظام البائد سجلاً موثقاً مريعاً من الانتهاكات، يبدأ حسب إحصائيات الأمم المتحدة من نحو 307 آلاف قتيل مدني، وأكثر من 15 ألف ضحية تحت التعذيب في سجون النظام ومعتقلاته، و135 ألف معتقل معظمهم خارج قيود الاعتقال، ولا ينتهي عند أهالي 55 ألف مفقود يواصلون البحث عن أبنائهم ضمن صور سرّبها العسكري “قيصر” الذي انشق عن النظام. كذلك تشير المعطيات الأممية إلى أن عدد اللاجئين والنازحين قسراً من السوريين يتجاوز 13,8 مليون شخص داخل سوريا وخارجها، وهذا يمثل أزمة اللجوء الأكبر على نطاق العالم. وكل هذا عدا الأوضاع الاقتصادية والمعيشية التي أثقلت كاهل المواطن السوري، في ظل دولة فاشلة تعيث فيها شبكات الفساد والنهب وانحطاط خدمات الحد الأدنى وانهيار العملة الوطنية.
وكان النظام السوري قد استشعر الانتصار على قوى المعارضة السلمية والمسلحة، فضرب عرض الحائط بمختلف الجهود الدولية التي سعت إلى إيجاد حلول سياسية للأزمة، سواء منها مقررات أستانا وما سُمّي مناطق خفض التصعيد، أو القرار الأممي 2254 أواخر العام 2015 الذي طالب بمفاوضات بين النظام والمعارضة وإنشاء آلية لمراقبة وقف إطلاق النار وإجراء انتخابات حرة ونزيهة في غضون 18 شهراً والسير تباعاً في مراحل التحول السياسي. كذلك باءت بالفشل جهود بعض الدول العربية لإعادة تأهيل النظام واستئناف عضويته في الجامعة العربية، لقاء القيام بإصلاحات سياسية والامتناع عن ضخّ مخدرات الكبتاغون إلى الجوار.
وإذا صح أن المتغيرات الجذرية التي شهدتها المنطقة مؤخراً، وبينها انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا وإضعاف إيران وأذرعها في المنطقة عموماً وسوريا خصوصاً، هي في طليعة الأسباب العملية التي أتاحت للمعارضة السورية المسلحة تسجيل انتصارات سريعة ومباغتة ضد النظام في إدلب وحلب وحماة وحمص ودرعا والسويداء وصولاً إلى العاصمة دمشق، فالصحيح أيضاً أن الشعب السوري لم يتوقف عن السعي إلى التغيير والمثابرة على التطلع إلى الخروج من النفق المظلم.
وإسقاط النظام اليوم هو الشطر الأول من معجزة كبرى تُسجّل للشعب السوري، وبالتالي تقتضي شطراً ثانياً هو السير حثيثاً نحو برّ الأمان، حيث يتوجب أن تتكاتف كل مكونات الشعب السوري وقواه من أجل استكمال مقومات دولة عصرية ديمقراطية وحديثة يكفل دستورها حقوق المواطنة وواجباتها، كما يضمن الحريات العامة وتعدد الآراء والمعتقدات والأعراق، ويرسخ مجدداً انتماء سوريا إلى محيطها العربي والإقليمي والدولي، ويستعيد دورها التاريخي المعروف في القضايا الوطنية الكبرى.
وهذا الشطر الثاني من المعجزة لا يحتاج إليه الجوار والإقليم والعالم فقط، بل هو مآل سياسي وإنساني وتاريخي تستحقه سوريا ويليق بالسوريين الذين سددوا أبهظ الأثمان كي يطلع فجر الحرية في بلادهم.

القدس العربي