عُلا : عرضنا لأطفال غزّة بين الخيم
فيما كانت حرب الإبادة الصهيونية متواصلة على قطاع غزّة للسنة الثانية، وتدمير الأبنية على رؤوس ساكنيها في لبنان يتصاعد، كانت فعاليات “أيام فلسطين السينمائية” تنطلق حول العالم. عروض 8 أفلام فلسطينية بدأت في 2 تشرين الثاني/نوفمبر ذكرى وعد بلفور، وغطّت 57 دولة حول العالم، بمجموع 398 عرضاً.
بالتأكيد ما من حراك مطلقاً يوازي الدم المسفوك على أرض غزّة نتيجة الإبادة الصهيونية، بات الصمت عاراً لن يمحوه التاريخ عن أي جبين. لهذا صار رفع الصوت كفعل متاحا لدى كل منا ضرورة. السينما الفلسطينية حضرت حيث كان ممكناً، رفعت الصوت وأظهرت للعالم كيف يعيش الفلسطينيون في ظل الاحتلال.
فيلم “لاب فلسطين” ومنذ تأسيسه في رام الله بمبادرة من حنا عطالله سنة 2014 يواصل تعزيز الثقافة السينمائية، ويعمل لتوفير الفضاء المثالي الممكن لها. بعد 7 اكتوبر كان تريث علّ المذبحة تنتهي، ولكنها مستمرّة. اُرجئت فعاليات الدورة العاشرة، وكانت عروض للأطفال بين خيم النزوح في غزة في حزيران/يونيو. وفي 2 تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2024 كانت السردية السينمائية الفلسطينية تلفّ العالم، وتتحدى حظر نتفليكس.
هنا حوار عن السينما الفلسطينية مع المديرة التنفيذية لفيلم “لاب فلسطين” عُلا سلامة:
■ ما الذي ميّز الدورة العاشرة من أيام فلسطين السينمائية في ظل حرب الإبادة المتواصلة في غزّة؟
■ كانت الدورة العاشرة مُقررة في 24 تشرين الأول/أكتوبر 2023 اُرجئت مع بدء الإبادة في غزّة لأجل غير مُسمى. ونُظمت “أيام فلسطين السينمائية حول العالم” بدعم من الشركاء في أفلامنا لبنان، وأفلام سين مصر وطلبنا من كافة الأصدقاء الراغبين باستضافة عروض سينمائية فلسطينية. وجدنا بالتزامن مع الهجمة الوحشية علينا من وسائل الإعلام الرسمية وغيرها أنه من واجبنا نشر سرديتنا. وكأن تاريخ العالم بدأ يوم 7 أكتوبر، وأننا كشعب لسنا تحت الاحتلال منذ 76 سنة. قررنا أن تكون العروض التضامنية في 2 تشرين الثاني/نوفمبر ذكرى وعد بلفور. ففي 2023 نظمنا 171 عرضا في 41 دولة. وفي سنة 2024 لازمتنا مشاعر بأن كل ما نقوم به يستحيل أن يوازي ما تعيشه غزّة، من قتل جماعي ومن دمار. وكنّا بانتظار أن تنتهي الحرب، ولم يحصل. في شهر حزيران/يونيو نجحنا بتنظيم عروض خاصة للأطفال في غزّة. انتظر الأطفال تلك العروض بفارغ الصبر، وبمشاعر الضيق كانوا يعبّرون مع نهاية الفيلم. وفي أحدها في خان يونس بدأ القصف على مدينة حمد، سارع المعنيون بالعرض لجمع حاجاتهم لإخلاء التجمّع، فإذ بالأطفال يصفونهم بالجبناء. السبب أن السينما كانت لها قدرة فصلهم عمّا يحدث حولهم. وبدورهم طالب الكبار بعروض خاصة بهم. ومن هنا كانت لنا جرأة تنظيم نسخة استثنائية من الدورة العاشرة لفيلم “لاب فلسطين” واقتصرت على فلسطين، وكانت في أيلول/سبتمبر بين 20 و24. وتزامت العروض بين مدينة غزّة والقدس ورام الله وبيت لحم والخليل، إلى عروض في شفاعمر وحيفا في الداخل المحتل.
■ وماذا عن فيلم الافتتاح للدورة الاستثنائية؟
■ إنه فيلم “السبع موجات” وهو الأخير تمّ تصويره في غزّة قبل العدوان. ويشكل بالنسبة لنا ألبوم الوداع لغزّة التي نعرفها. غزّة في أذهان الناس ترتبط بالحرب، وفيلم “السبع موجات” يُظهر حياة الناس كسكّان يعيشون على الساحل، والزنّانة ترافق حياتهم على مدار الساعة. تمّ تصوير الفيلم بين سنتي 2020 و2021 التي تخللتها هبّة أيار والتي تحولت إلى حرب على غزّة لحقاً. إذاً “السبع موجات” يُظهر حياة سكّان غزّة بين حصار وحروب. وتضمنت النسخة الاستثنائية أفلاما متعددة تحكي عن حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال، إلى فيلم لبناني، وسوداني ويمني. أما عروض مهرجان أيام فلسطين السينمائية حول العالم في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 بلغت 398 في 57 دولة، بينها بلدان ومدن جديدة استقبلت عروض المهرجان رغم الصعوبات اللوجستية.
■ ما هي هذه الصعوبات؟
■ في برلين على سبيل المثال هناك صعوبة في تنظيم أي حدث يتعلق بفلسطين. وفي مدن أخرى غيرها، ومع ذلك انضمّت مدن كثيرة جديدة لأيام فلسطين السينمائية وعُرضت أفلامنا. وهكذا كانت أيام فلسطين السينمائية داخل الوطن في أيلول/سبتمبر، ونسخة ثانية حول العالم في 2 تشرين الثاني/نوفمبر بهدف نشر السردية الفلسطينية، ولمواجهة تضليل الحكومات المتمثل بالإعلام الرسمي.
■ ماذا عن الأفلام الثمانية التي حملت السردية الفلسطينية إلى 57 دولة؟
■ هي أفلام منوعة. فنحن حيال احتلال عمره 76 عاما وتقسيم بين الضفة الغربية وغزّة. ومدن أخرى تقع تحت السيادة الصهيونية بالكامل. وهذا ما خصّ المدن والأمكنة بأزمات خاصة بها. إذاً لكل مكان في فلسطين معاناته وخصوصيته في المواجهة. والأفلام الثمانية هي: نائلة والانتفاضة، الذي يتناول فترة الانتفاضة الأولى. والمطلوبون الـ18 ويتناول الانتفاضة الأولى كذلك. لماذا المقاومة؟ تمّ تصويره في السبعينيات في لبنان. عايدة الذي يحكي عودة رفاة إلى يافا. و11 يوماً في أيار/مايو عن حرب 2021 على غزة، ومتسللون الذي يتناول معاناة الفلسطينيين في الضفة الغربية في ظل جدار الفصل العنصري، ومعلول تحتفل بدمارها عن مهجري قرية معلول في الداخل الفلسطيني، وفلسطين الصغرى الذي يعرض يوميات حصار مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين.
■ بلغت العروض 398. هل من رقم تقريبي لعدد المشاهدين؟
■ لم تردنا بعد كامل المعلومات، إنما الصور الواردة قالت بأن الصالات كانت كاملة الحضور. وهذا بالطبع يختلف بين صالة وأخرى ومدى سعة كل منها.
■ هل واجهت العروض تحديات ما؟
■ من الصعوبات التي واجهت منظمي بعض العروض أنهم وصفوا بداعمين للإرهاب، مثلا في الهند، حيث لم يكن تنظيم العروض سهلاً. الشركاء الذين قرروا استضافة هذه العروض كانوا شجعاناً، خاصة الدول التي تدعم حكوماتها الصهيونية بشكل رسمي.
■ وماذا عن العروض في غزّة للعام 2024 وهل بقي مكان يشبه صالة السينما؟
■ تمت عبر بروجكتور وقطعة بيضاء بديلة للشاشة. لم تكن جرأتنا بقدر ما كانت جرأة ناس غزّة على التجمّع في ظل الخطر المحدق بهم. شغفهم بالحياة جعلهم يجتمعون أمام الشاشة وفي الهواء الطلق، هم من منحونا القوة لأن نعرض لهم الأفلام. كان لنا في غزّة هذا العام 30 عرضاً أولها في 22 حزيران/يونيو، وآخرها في شهر اكتوبر.
■ وهل تتعاونون مع مخرجين من غزّة لتصوير أفلام خلال العدوان؟
■ لدينا سلسلة أفلام سنصدرها تحت عنوان غزاّويات. خمسة أفلام تنقل حياة النساء الغزّاويات المتروكات في مواجهة العدوان مع أطفالهن، فإما ازواجهن معتقلون، أو شهداء، أو جرحى، لذلك هنّ بمواجهة مسؤوليات كبير سببها العدوان المستمر، إنه ثمن مضاعف يضاف لإحساسهم بالخوف ومعايشة الموت وووو. كنّ زوجات وأمهات في وضع مرتاح نسبياً قبل الحرب، وباتت الأعباء جميعها على أكتافهنّ، ولا شك بأن تلك الأفلام تضيء على الخصوصية التي باتت معدومة كلياً لنساء غزّة في حياة النزوح.
■ قبل العدوان كيف كان حضوركم في غزّة؟
■ أسسنا ثلاثة نوادي سينمائية في غزّة، توزعت بين مدن غزّة وخان يونس ورفح. النسخة التي تمّ إلغاؤها سنة 2023 كانت تتضمن عروضاً في المدن الثلاث. تعاوننا واسع جداً مع قطاع غزّة قبل العدوان من عروض أفلام، إلى ورش صناعة أفلام للأطفال، وعروض خاصة بهم.
■ يقرأ البعض في حضور حماس كسلطة في غزّة أنه مجافي للثقافة والسينما. كيف هو الواقع؟
■ حماس موجودة في غزّة منذ 18 سنة. تسيطر النظرة المسبقة عن غزّة في بعض الأذهان، ويرونها من خلال الحرب والدمار. ولدت في غزّة وعشت فيها، وأمضيت ثماني سنوات هناك بوجود حماس، بالتأكيد لم تكن سهلة، إلا أنهم لا يتدخلون في الحياة الاجتماعية للناس، وعروض السينما كانت مستمرّة في المركز الثقافي الفرنسي، ومركز رشاد الشوّا وغيره. فلسطين تشبه الأقطار العربية فما يمكن عرضه في رام الله قد يصعُب عرضه في نابلس. الشاشة التي تعرض للعموم لها ما يحكمها، علماً أن الناس تشاهد ممنوعات الشاشة الكبيرة على الشاشة الصغيرة. بالتأكيد شاشة عموم الناس أكثر حساسية. تاريخياً كان في غزّة سبعة دور سينما، منها “السامر” افتتحت سنة 1944. وفي ستينيات القرن الماضي كانت غزّة قبلة لنجوم السينما المصرية. “مارنا هوس” على سبيل المثال أوتيل ومقهى يرفع صوراً لفاتن حمامة وعمر الشريف وهما يجلسان في المكان وغيرهما الكثير. كانت غزّة قبل احتلالها مقصداً للكثيرين.
■ وماذا عن تعاونكم مع صنّاع الأفلام الفلسطينيين في الداخل المحتل؟
■ بالطبع نتعاون معهم وندعم أفلامهم، ونستضيف عروضهم.
■ وماذا عن الشراكات السينمائية العربية؟
■ نعتز بشراكاتنا الإستراتيجية البعيدة عن التمويل، كما الشراكة مع أفلامنا في لبنان وشراكات أخرى في الوطن العربي كما مؤسسة المورد الثقافي. وفي العام 2024 ازدادت الشراكات لأن مهرجانات السينما العربية كانت معنية بعرض أفلام فلسطينية وكذلك تنظيم نقاشات خاصة بالسينما الفلسطينية.
غزّة وفلسطين كانتا حاضرتان في كافة مهرجانات السينما العربية والعالمية شكلاً ومضموناً؟
■ صحيح. ما يحدث كبير للغاية، ويستفزّ إنسانية أي إنسان ليسارع متضامناً. غزّة امتحان للإنسانية، وللجرأة في اظهار هذا التضامن من قبل الأشخاص. لسنا في موقع سهل، حيث الكثير من الحكومات تشنّ الحرب على فلسطين وكل من يتضامن معها. للأسف أصبح التضامن يتطلب الجرأة.
■ ما هو الأثر الذي تركه قرار نتفليكس بمنع عرض الأفلام الفلسطينية؟
■ نحن في عصر يستحيل فيه حجب صورة ومنع فيلم. حين حجبت نتفليكس الأفلام والرواية الفلسطينية، انطلقت مثلاً عروض أيام فلسطين السينمائية حول العالم وبلغت كما سبق القول 398 عرضاً لثمانية أفلام فلسطينية. عروض غنية وجماهيرية وحققت وصولاً. للأسف كفلسطينيين نُذبح على الهواء، ووسائل التواصل تُسارع لنشر القصص. نحن في فيلم “لاب فلسطين” نهتم بالسينما، ونهتم كذلك بضرورة وصول الصورة ومن خلالها قصتنا. حجبت نتفليكس فيلما أو أتاحت عرضه سيان، فالعالم يرى ما يحدث في فلسطين. حتى وإن تبلّدت عيون الناس من مشاهد القتل على الهواء، يبقى للسينما امكانياتها المُطلقة في نقل رهافة المشاعر، أكبر بكثير من الصورة الإخبارية. نعم حجبت نتفليكس 38 فيلما، ونجحنا بتحقيق 398 عرضاً حضورياً ونقاشات. نعم نحن نخوض حرباً على السردية منذ بدأ المشروع الصهيوني في فلسطين. إنها الحرب بين الحقيقة والزيف.
■ هل يؤكد قرار نتفليكس أن الفيلم الفلسطيني بات له أثره في العالم؟
■ لأن ما يحصل في غزّة هو إبادة كبيرة للغاية، أدت لخلق تضامن غير مسبوق مع الشعب الفلسطيني وقضيته، ونحن حيال سؤال عن من يسيطر على السردية؟ ووسائل الإعلام والأخبار التي تبثّها شاشات التلفزيون، في المقابل هدفها حجب كل ما يدعم سرديتنا. لن نقول أن حجب الأفلام الفلسطينية جاء نتيجة قوتها، بل لأن ما يحدث في غزّة كبير وقوي لدرجة أنه خلق تضامناً عالمياً قوياً. وللسينما دورها الذي يفوق دور نشرة الأخبار، كونها تضع المشاهد في معايشة مباشرة مع القصة.