ديون الشرق الأوسط

تضاعفت تقريبا قيمة الدين الخارجي لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال السنوات العشر الأخيرة. وطبقا لإحصاءات البنك الدولي فإن قيمة الدين الخارجي القائم بلغت 443 مليار دولار بنهاية عام 2023. وبما أن عدد السكان يقدر في هذه السنة بحوالي 420 مليون نسمة، فإن هذا يعني أن نصيب الفرد الواحد في المنطقة من الدين الخارجي القائم يبلغ حوالي 1000 دولار. وكانت قيمة الدين الخارجي القائم في عام 2010 قد بلغت 211 مليار دولار. خلال تلك الفترة إذن زادت قيمة الدين الخارجي 232 مليار دولار بنسبة زيادة كلية بلغت 110 في المئة بمعدل زيادة سنوية تبلغ في المتوسط 8.5 في المئة. هذا المعدل للزيادة السنوية في الدين الخارجي يزيد عن ضعف معدل النمو السنوي للاقتصاد ككل، وهو ما يطرح أسئلة كثيرة حول رشادة سياسات الديون في دول تلك المنطقة المصابة بكل أنواع الصراعات والأزمات، خصوصا وأن العلاقة بين الديون الخارجية والناتج المحلي الإجمالي تظهر تزايد قيمة التحويلات المالية إلى الخارج على حساب احتياجات تمويل التنمية في الداخل، إذ أن خدمة الدين الخارجي تبتلع ما يعادل في المتوسط 10 في المئة من قيمة الصادرات وحوالي 3 في المئة من قيمة الناتج المحلي. لكن هذا المتوسط الحسابي لأعباء خدمة الدين الخارجي يختلف اختلافا كبيرا قياسا إلى طبيعة اقتصاد الدولة والمرحلة التي تمر بها في التنمية.

ديون الدول الفقيرة والفاشلة

تضم منطقة الشرق الأوسط مزيجا من البلدان ذات مستويات الديون المرتفعة، يأتي في مقدمتها السودان حيث تبلغ نسبة ديونه إلى الناتج المحلي الإجمالي حوالي 238.8 في المئة، وهو ما يعكس صراعاته الاقتصادية واعتماده على الاقتراض. وتنخفض تكلفة خدمة الدين الخارجي في الدول النفطية الغنية، في حين ترتفع في الدول النامية والفقيرة إلى أكثر من ضعف المتوسط الحسابي لكل دول المنطقة. ومن الملاحظ أنه بسبب احتياجات الاستثمار لتحقيق التنوع الاقتصادي والاستعداد لعصر ما بعد النفط، فقد أصبحت الدول النفطية الغنية تلجأ إلى الخارج للحصول على التمويل الكافي. ومع زيادة لجوء هذه الدول إلى التمويل الخارجي فإنه من المتوقع أن ترتفع القيمة المطلقة للدين الخارجي، ونسبته من الناتج المحلي.
وتتوقع وكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني أن تكون آفاق نمو ديون دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا “محايدة” في عام 2025 مع تحقيق التوازن بين أسعار مستقرة للنفط والنمو الاقتصادي المعقول، في مقابل المخاطر السياسية والجيوسياسية المرتفعة. وتسلط الأحداث الأخيرة في سوريا الضوء على التداعيات الإقليمية المحتملة، حيث لا يزال مسار هذه الاضطرابات وتداعياتها غير متوقعة ما يزيد من نقص اليقين وارتفاع درجة المخاطر. وتتوقع “فيتش” أن يبلغ متوسط ​​سعر برميل النفط الخام برنت 70 دولارا في عام 2025، وهو أعلى من سعر التوازن المالي المتوقع في موازنات جميع دول مجلس التعاون الخليجي باستثناء المملكة العربية السعودية والبحرين. وقد عززت الإصلاحات والإنفاق الرأسمالي الضخم قدرة دول مجلس التعاون الخليجي على استيعاب تأثير انخفاض أسعار النفط. ومن المقرر أن يظل النمو غير النفطي قويا، ما يعكس الاستثمار العام، الممول من الحكومة والكيانات التابعة لها، إضافة إلى الاستثمار الخاص. وسوف تدعم الإصلاحات والاستثمار الأجنبي المباشر النشاط الاقتصادي للمصدرين من خارج القطاع النفطي في المنطقة. لكن النمو سيكون ضعيفا. وسوف يؤدي ضعف النمو إلى تعقيد عملية ضبط الأوضاع المالية. ولذلك فإن ضبط الإنفاق والإصلاحات وتعزيز تحصيل الإيرادات سوف يسمح بانخفاض طفيف في نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي. وتظل تحديات التمويل الخارجي قائمة بالنسبة للدول التي تقع عند الطرف الأدنى من مقياس التصنيف مثل البحرين.

ارتفاع قياسي في تكلفة خدمة الديون

يظهر التقرير الأخير عن الدين العالمي الصادر عن البنك الدولي منذ أيام أن الدول النامية أنفقت مبلغا قياسيا قدره 1.4 تريليون دولار لخدمة ديونها الخارجية مع ارتفاع تكاليف الفائدة إلى أعلى مستوى لها منذ 20 عاما في عام 2023. وقد ارتفعت مدفوعات الفائدة بنحو الثلث إلى 406 مليار دولار، ما أدى إلى الضغط على ميزانيات العديد من البلدان في مجالات حاسمة مثل الصحة والتعليم والبيئة.
وجاء في التقرير أن الضغوط المالية كانت أشد على البلدان الأكثر فقراً وضعفاً – تلك المؤهلة للاقتراض من مؤسسة التنمية الدولية التابعة للبنك الدولي، وهي البلدان الفقيرة.
ووفقا لإحصاءات البنك دفعت هذه البلدان مبلغا قياسيا قدره 96.2 مليار دولار لخدمة ديونها في عام 2023. وعلى الرغم من انخفاض سداد أصل الدين بنحو 8 في المئة إلى 61.6 مليار دولار، إلا أن تكاليف الفائدة ارتفعت إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق عند 34.6 مليار دولار في عام 2023، أي أربعة أمثال المبلغ قبل عقد من الزمان. في المتوسط، تبلغ مدفوعات الفائدة من البلدان الفقيرة الآن ما يقرب من 6 في المئة من عائدات التصدير، وهو مستوى لم نشهده منذ عام 1999. وبالنسبة لبعض البلدان، فإن مدفوعات خدمة الدين تصل إلى 38 في من عائدات التصدير.
ومع تشديد شروط الائتمان (أسعار الفائدة المرتفعة)، أصبح البنك الدولي وغيره من المؤسسات المتعددة الأطراف بمثابة شريان الحياة الرئيسي للاقتصادات الأكثر فقرا. فمنذ عام 2022 تلقى الدائنون الأجانب من القطاع الخاص ما يقرب من 13 مليار دولار إضافية في مدفوعات خدمة الديون من المقترضين من القطاع العام مقارنة بما حصلوا عليه من تمويل جديد. وعلى مدى نفس الفترة، ضخ البنك والمؤسسات المتعددة الأطراف الأخرى ما يقرب من 51 مليار دولار إضافية في عامي 2022 و2023. وقدم البنك الدولي ما يقرب من ثلث هذا المبلغ، أي حوالي 28.1 مليار دولار. وقال إندرميت جيل، وهو كبير خبراء الاقتصاد والنائب الأول لرئيس البنك الدولي: “أصبحت المؤسسات المتعددة الأطراف بمثابة شريان الحياة الأخير للاقتصادات الفقيرة التي تكافح من أجل تحقيق التوازن بين مدفوعات الديون والإنفاق على الصحة والتعليم وأولويات التنمية الرئيسية الأخرى”. وأضاف: “في البلدان الفقيرة المثقلة بالديون، تعمل البنوك الانمائية المتعددة الأطراف الآن كمقرض الملاذ الأخير، وهو الدور الذي لم تُصمم للقيام به. وهذا يعكس نظام تمويل مختل: فباستثناء الأموال من البنك الدولي والمؤسسات المتعددة الأطراف الأخرى في ضخ التمويل، فإن الأموال تتدفق من الاقتصادات الفقيرة إلى الخارج عندما كان ينبغي لها أن تتدفق إلى الداخل”.
وما تزال الدول النامية والفقيرة تعاني من تداعيات التوسع في التمويل خلال جائحة كورونا، وهو ما أدى إلى زيادة حادة في أعباء الديون على جميع البلدان النامية. كما أدى الارتفاع اللاحق في أسعار الفائدة العالمية إلى صعوبة استعادة قدرتها على تحقيق التوازن، على الأقل عند المستوى الذي كانت عليه عام 2019. وقد ارتفعت قيمة الديون المستحقة على جميع البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل إلى رقم قياسي بلغ 8.8 تريليون دولار في نهاية عام 2023، بزيادة قدرها 8 في المئة عن عام 2020. وكانت النسبة المئوية للزيادة أكبر من ضعف ذلك في البلدان الأشد فقرا، حيث ارتفع إجمالي ديونها الخارجية إلى 1.1 تريليون دولار، بزيادة تقرب من 18 في المئة. في العام الماضي أصبح الاقتراض من الخارج أكثر تكلفة بشكل كبير لجميع الاقتصادات النامية. فقد ارتفعت أسعار الفائدة على القروض من الدائنين الرسميين إلى أكثر من 4 في المئة، في حين ارتفعت الأسعار التي يفرضها الدائنون من القطاع الخاص (البنوك التجارية ومؤسسات التمويل الخاصة) بأكثر من نقطة واحدة إلى 6 في المئة، وهو أعلى مستوى في 15 عامًا. ومع أن أسعار الفائدة العالمية بدأت في الانخفاض في العام الحالي، إلا إنها من المتوقع أن تظل أعلى من المتوسط ​​​​الذي ساد في العقد السابق للجائحة.

ضرورة إدخال إصلاحات هيكلية

ويستنتج البنك الدولي أن الارتفاع في مكونات الديون الطويلة الأجل القائمة حاليا كان مدفوعا في الغالب بزيادة الالتزامات تجاه الدائنين المتعددي الأطراف، والتي ارتفعت بنسبة 6.8 في المئة في عام 2023 إلى 1.3 تريليون دولار أمريكي، أي ما يعادل 20.4 في المئة من إجمالي الديون الطويلة الأجل المستحق. وفي العام 2023 زادت قيمة ديون الدائنين الثنائيين بنسبة 1.3 في المئة إلى 499 مليار دولار أمريكي. وجاءت زيادة الدين القائم المستحق على الديون الثنائية بعد انخفاض دام عامين، حيث عادت الحكومات الدائنة إلى إقراض البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، واستمرت في تنويع مزيج أدوات الإقراض الثنائية، بما في ذلك خطوط مقايضة العملات الثنائية المحلية. وشهدت المعاملات في القروض الثنائية زيادة في استخدام البنوك المركزية لخطوط مقايضة العملات المحلية في أعقاب الجائحة للمساعدة في تسهيل التجارة والعمل كشبكة أمان لتوفير دعم مؤقت لميزان المدفوعات، بعد أن انخفضت إيرادات الدول المدينة من العملات الأجنبية الرئيسية.
وفي الدول النامية ذات الدخل المتوسط المنخفض، مثل مصر، فإن تقارير المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي، والمؤسسات الخاصة مثل وكالات التصنيف الائتماني تشير إلى أنها انتقلت إلى وضع مستقر نسبيا، لكن هذا يتوقف على الإصلاحات الهيكلية في المالية العامة وإدارة الدين الخارجي. وما تزال مصر تعاني من الكثير من الصدمات الخارجية الجيوسياسية. وتعد مرونة سعر الصرف من أهم الإصلاحات الهيكلية المطلوبة لاستدامة التمويل الخارجي على المدى الأطول. وعلى الرغم من ارتفاع مستوى الديون فإن مصر تتمتع بتصنيف جيد فيما يتعلق بتوفر السيولة، وصنع السياسات، والسمات الهيكلية للاقتصاد، خصوصا من حيث التنوع. وتقول وكالة “فيتش” أن درجة السيولة الأقوى التي تتمتع بها تأتي نتيجة قوة الدعم الخارجي، وأن صنع سياسات أقل تقلبا، ووجود مشاركة إيجابية مع صندوق النقد الدولي، كما أن قاعدة الإيرادات الاقتصادية والمالية في مصر واسعة ومتنوعة. وفي حال المحافظة على مرونة سعر الصرف، فإن تقلبات أسعار العملات تميل إلى الانخفاض. ومع ذلك فإن جمود سعر الصرف يسهم في تفاقم أزمة ميزان المدفوعات.

تفاقم حدة الدين العالمي

تضاعف الدين الحكومي لدول العالم ثلاث مرات منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، ليصل إلى 92 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي أو 91 تريليون دولار بحلول نهاية عام 2022. كما شهد الدين الخاص زيادة مماثلة، حيث تضاعف ثلاث مرات إلى 146 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أو 144 تريليون دولار، من عام 1960 إلى عام 2022، طبقا لبيانات المؤسسات المالية الدولية. وقد لعبت الصين والولايات المتحدة دورًا مهما في الارتفاع الأخير للديون العالمية. ويبلغ إجمالي ديون الصين حاليا حوالي 47.5 تريليون دولار، وهو أقل من ديون الولايات المتحدة التي تقترب من 70 تريليون دولار. والجدير بالذكر أن الصين تمتلك أكبر حصة من ديون الشركات غير المالية على مستوى العالم، بنسبة 28 في المئة، بسبب مديونيات الحكومات المحلية. وتعد كل من الصين والولايات المتحدة في قائمة الدول ذات أعلى نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، وهي القائمة التي تتصدرها اليابان.
وفي منطقة آسيا والمحيط الهادئ، تتصدر اليابان المجموعة بأعلى نسبة دين إلى الناتج المحلي الإجمالي بنسبة مذهلة تبلغ 251.9 في المئة. ويرجع هذا إلى حد كبير إلى عقود من السياسات الاقتصادية وشيخوخة السكان. تليها سنغافورة، بنسبة دين إلى الناتج المحلي الإجمالي تبلغ 168.3 في المئة، مدفوعة باستثماراتها الاستراتيجية وسياساتها المالية.
وتُظهِر البيانات أيضاً أن العديد من الاقتصادات الناشئة والمنخفضة الدخل تواجه مخاطر عالية من ضائقة الديون. على سبيل المثال، يواجه 25 في المئة من الاقتصادات الناشئة خطر فروق أسعار الفائدة على ديونها السيادية، في حين أن نحو 15 في المئة من الاقتصادات المنخفضة الدخل تعاني بالفعل من ضائقة الديون.

إبراهيم نوار