فيلم «أبو زعبل 89».. واب وابن
يباغتنا الوثائقي «أبو زعبل 89» للمخرج المصري بسام مرتضى، وهو الفيلم الذي حصل على العديد من الجوائز في مهرجان القاهرة السينمائي لهذا العام، ومن بينها جائزة أفضل فيلم وثائقي، بألم لم نكن نتوقعه. مزيج من الألم والشجن والشفقة والحزن يجتاحنا، ونحن نشاهد كيف هزم ظلم الوطن جيلا متحمسا للتغيير، وكيف يتعامل الأبناء مع تركة هذه الهزيمة التي يتحملون تبعاتها منذ نعومة أظفارهم. الشخصية المحورية في الفيلم هو بسام، وهو مخرج الفيلم، الذي ربما يحاول مداواة ذاته بالحكي، أو يحاول أن يفهم نفسه عبر محاولة فهم أبيه الذي كسره المعتقل، وأمه التي حملت العبء كاملا.
والد بسام هو محمود مرتضى، وهو مناضل ثوري وعمالي، كسره المعتقل، وابن جيل مهزوم، ليس مهزوما لضعفه، ولكن لأن بطش النظام كان أكبر من قدرته على الصمود. عبر قصة والده، يؤرخ بسام لجيل الثمانينيات من القرن العشرين. ينطلق الفيلم، وكفاح محمود مرتضى والد بسام، من اعتصام عمال الحديد والصلب للمطالبة بحقوقهم، ذلك الاعتصام الذي كان محمود من أفراده المؤسسين، وما جاء إثر هذا الاعتصام من بطش السلطات بمن شارك في الاعتصام أو خطط له، وأسرهم. جاء اعتصام عمال الحديد والصلب في أغسطس/آب عام 1989 احتجاجا على مساعي الإدارة تمرير قرارات مجحفة، خاصة بظروف العمل، لكن قوات الأمن تقتحم المصنع وتنكل بالعمال وتعتقل العديد منهم. عبر قصاصات صحف حكومية تحمل تقارير عن الاعتصام نرى عنوانا على لسان زكي بدر وزير الداخلية في تلك الفترة، يقول فيه، إن استخدام القوة والعنف لا يعوق مسيرة الديمقراطية. تقتحم قوات الأمن الخاصة المصنع تحت غطاء من المروحيات. تلقي السلطات القبض على أعداد كبيرة من المعتصمين، ومن بينهم مجموعة وجه لها الاتهام بتأسيس تنظيم شيوعي سري يحرض العمال في المصنع على العصيان. وكان محمود مرتضى والد بسام، من بين هؤلاء الذين اعتقلوا بذريعة الانضمام لتنظيم شيوعي.
«أبو زعبل» الذي يعنون الفيلم هو اسم المعتقل سيئ السمعة الذي اقتيد إليه محمود مرتضى، ويتذكر بسام الطفل حينذاك، تلك الليلة حين اعتقل والده وما سبقها من تأهب وخوف، حيث طلب منه والداه التظاهر بالنوم إذا طرقت قوات الأمن الباب.
يتناول «أبو زعبل» سردية متعددة المستويات، فهو لا يبقى في الماضي، في لحظة اعتقال الوالد، بل يتخذ من تلك اللحظة شهادة على الواقع القمعي في مصر في تلك اللحظة. كما أنه يعطينا أصداء ذلك الواقع القمعي في لحظتنا الحالية، من أم حملت من العبء النضالي والأسري ما تنوء به الجبال، من ابن يتنازعه الشعور بين احترام الماضي النضالي لوالده والرثاء لانكساره وفراره بعد الخروج محطما نفسيا من المعتقل، ودوره هو كابن يتعين عليه في صباه أن يكون رجلا يحاول أن يساند أمه وألا يتحطم ويفر كما فعل والده.
المعتقل في الفيلم ليس مجرد مكان جاثم على الصدور، وليس مجرد روايات يحكيها الأب عن محبسه الانفرادي، ولكنه أيضا رمز، حتى بعد أن مرت الأعوام وخرج الأب من معتقله وغادر مصر لأوروبا، ثم عاد إليها ليبقى السجن قائما كشبح لا يراه الجميع، ولكنهم يستشعرون وجوده وثقله، هذا السجن هو الذي حال بين هذا الأب وابنه يبقى قائما كحاجز بينهما حتى يومنا هذا. يروي الأب أنه يوم خرج من الحبس الانفرادي في المعتقل وجد نفسه في قاعة في السجن فيها حوض فيه ماء أسود راكد متسخ، ولكن هذا الحوض هو ما يجده ليبرد عن جوفه حرارة القهر والفكر في السجن الانفرادي. يحاكي بسام في أحد مشاهد الفيلم هذا المشهد من حياة أبيه في المعتقل، حيث يرقد في حوض فيه ماء آسن متسخ، علّه يشعر بما شعر به والده. ولكن هذا الماء المشبع بالطين والشوائب يصبح رمزا لحياة الأسرة كاملة منذ اعتقال الأب، ويبقى الابن عالقا في وحله حتى يومنا هذا، وربما يكون هذا الفيلم محاولة للتطهر من آثار هذا القمع الذي حاق بالأب، ودفع ثمنه الأب والأم والابن على حد سواء.
حين نرى فردوس بهنسي، والدة بسام والزوجة السابقة لمرتضى، نراها نحيلة مريضة واهنة الجسد، حتى نخالها جدة بسام وليست والدته، ولكنها رغم مرضها ووهنها الجسدي، ما زالت قوية الشكيمة كما عهدها بسام طوال حياته. في بدايات ظهورها في الفيلم تتذكر فردوس كيف كانت تعد متطلبات زوجها وبعض الطعام وتحمله له في يوم الزيارة في المعتقل، وكيف كان طفلها الصغير يصحبها في ذلك اليوم. تتشتت الأسرة بعد ما تعرض له الأب من تعذيب. حملت الأم أكثر مما تحتمل بين التردد على السجن لزيارة زوجها ومساندته ورفاقه في النضال، وعملها لتوفر قوت أسرتها، وعملها النضالي، وتربية الابن.
لا ينصر الفيلم طرفا في الأسرة على طرف، فكلهم ضحايا لهذا المعتقل، حتى إن كانوا جسديا خارجه. يخرج الأب من السجن بعد سنوات من التعذيب والتنكيل، يخرج عازما على أن يحيى وأن يختلس لنفسه بعض السعادة، حتى إن بدت تخليا عن ماضيه الثوري أو عن أسرته. أما فردوس، فبعد سنوات من التحمل ولعب جميع الأدوار أثناء مكوث زوجها في غياهب المعتقل، فتتوقع من زوجها أن يحمل عن عاتقها بعض الحمل، ولكنها تجده بعيدا يحاول الابتعاد عن البلاد. أما بسام الصبي فكان ممزقا بين أبويه. يحاول أن يتفهم انكسار أبيه، ويحاول أن يساعد أمه، ولكنه في جميع الحالات يشعر بالحيرة والوجل من أن يصبح في نظر أمه ضعيفا جبانا، كما أصبحت ترى أباه.
ضمّن المخرج فيلمه أنماطا إبداعية أضفت المزيد من الرصانة عليه، وأخرجته من إطار أزمة أسرة واحدة إلى إطار أزمة وطن أو جيل. نسمع في الفيلم رسالات صوتية متبادلة بين بسام وصديقة في عمره خارج مصر الآن، وهي ابنة صديق لوالده إبان اعتصام عمال الحديد والصلب. هي الأخرى صوت آخر لهذا الألم الذي عم هذه الأسر بسبب المعتقل. ويضم الفيلم أيضا سردا للممثل سيد رجب، الذي كان أيضا سجينا في المعتقل، يروي فيه ما تعرض له من تعذيب وألم. القصة إذن ليست فردية، ولكنه عذاب جمعي لمن تجرأ على الاعتراض. ورغم ما يحمله الفيلم من ألم إلا أنه لا يهدف إلى التمرغ في الرثاء للذات. يروي المخرج قصته الذاتية وقصة والده بصدق شديد، ولكنه يحاول أيضا أن يجد بعض الضوء في اجتماع بعض الأصدقاء في عيد ميلاد أحد المعتقلين السابقين، وفي تصوير كيف تحاول تلك الأسر لملمة شتاتها وتضميد جراحها.