خالد نبهان: أيقونة الصبر والحب الذي لا يموت

كيف يمكنني أن أخبركم عنه؟ عن لحيته، التي نَسَجَ فيها الشيب قصائد العمر، وعلّق عليها معلقات من المحبة، الحنان، الطيبة، والرأفة. تلك اللحية، التي يراها المحتل الإسرائيلي شراسةً وإرهاباً، بينما نراها نحن من أجمل ما أنبتته الأرض وكللته السماء بنورها. كان خالد نبهان، أو الشيخ أبو ضياء، كما اعتاد الناس أن ينادونه، سيرةً من الطيبة تسير على قدمين، رجلًا نقشَت الأيام على ملامحه قصصاً عميقة من الحب والألم، الحزن والصبر.
لم يكن رجلاً عادياً؛ كان جذراً متيناً لشجرة عائلته، وسنديانة صلبة لغزة المثقلة بالجراح. لكن هذه السنديانة لم تسلم من ضربات الاحتلال الإسرائيلي، الذي قتل حفيديه، ريم وطارق، في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر عام 2023. ريم، تلك الطفلة ذات الضحكة العريضة التي كانت تملأ المنزل حياة، وطارق، ذلك الطفل الجميل، الذي حمل أحلامه الصغيرة على كتفي دراجته الهوائية.
كان وداعهما مشهداً حارقاً أبكى كل من بقي في قلبه ذرة من إنسانية. حين ضم خالد حفيدته ريم إلى صدره للمرة الأخيرة، قال كلماته التي لن تُنسى: «هذه روح الروح.» عبارة اختصرت الحب الذي لا يُقهر، والوداعة التي لا تُنسى، والألم الذي يفتك بالقلب. في ذلك اليوم الأسود، عاد خالد إلى منزل العائلة ليجد بين الركام الذي خلفته الغارات الإسرائيلية دميتها الصغيرة ودراجتها الهوائية، وأمسك بها، كما لو كان يحاول إعادة الزمن إلى الوراء.
انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو لريم، وهي تركض نحو جدها بضحكتها البريئة، التي لا تعرف سوى الفرح. حكى خالد عن علاقته المميزة بها، وكيف كان يسعى دائماً لتحقيق أمنياتها الصغيرة، من لعبة تافهة إلى رحلة قصيرة على دراجتها. لم تكن مجرد حفيدة بالنسبة له؛ كانت قطعة من روحه، اختُطفت أمام عينيه على يد عدو لا يعرف الرحمة.
منذ رحيل حفيديه، قرر خالد أن يكرس حياته لخدمة الآخرين. في قطاع غزة المحاصر، الذي يطوقه الموت من كل جانب، لم يكن خالد يهرب من الألم، بل كان يتحداه. نذر نفسه ليكون الأمل لغيره، الجد لكل طفل فقد جده، والسند لكل من سحقته آلة الحرب. ورغم البؤس الذي يغطي تفاصيل الحياة في القطاع، كان خالد شعلةً لا تنطفئ، يضيء قلوب من حوله، يقويهم بصبره وإيمانه. أصبح رمزاً للصمود، يتابع المبادرات الخيرية، ويشارك في كل ما يعين الآخرين على تجاوز المآسي التي لا تنتهي.
لكن هذا القلب الكبير لم يُمهَل ليحتفل بولادة حفيدته الجديدة، رواد، التي أبصرت النور في السابع من تموز/أيلول. قصف إسرائيلي غادر، مثل ذلك الذي أودى بحياة ريم وطارق، أسكت نبض خالد إلى الأبد. رحل ليكمل رحلته مع حفيديه، ترك الأرض التي أحبها، لكنه بقي في قلوب من عرفوه.

ماذا يفعل الأطفال في السماء

الآن أرى العم خالد.. يجلس في عليائه، يشرب قهوته الصباحية من فوق غيمة وادعة، بملابسه البيضاء التي تشبه نقاء روحه، وبعينين تملؤهما سكينة السماء. أراه يمسك بيد ريم من جهة وطارق من الجهة الأخرى، كأنهما جناحاه، يطير بهما فوق بساتين السماء التي لا تعرف الغارات، ولا الدمار، ولا الألم.
هو الآن يمشي معهما على أرضٍ خضراء، لا تحترق بنيران الحرب، ولا تُطوى على جثث الأحبة. أراه يراقبهما وهما يركضان بحرية لم يسمح لهما بها على الأرض المسكونة بالمتوحشين.. هما فوق الغيمة يضحكان ويضحكان حتى يناما.. أراهما يغفوان في حضن الجد في لحظات من طمأنينة غابت عنهما طويلاً، يمسحان عن أرواحهما الصغيرة ذكريات الموت والخوف.
هما الآن بعيدان جداً.. بعيداً عن ضجيج الطائرات التي تمزق السماء، وعن نيران الغدر التي التهمت كل شيء. بعيداً عن القلوب القاسية التي لا تعرف سوى القتل، وعن أصوات الانفجارات التي مزقت أحلامهم ذات يوم. هما هناك، حيث لا خوف ولا دمار، حيث الطفولة لا تُغتال، والأحلام لا تُسرق، والموت لا يمرّ مرةً أخرى.
أتساءل وأنا أغمض عيني: ماذا يفعل الأطفال في السماء؟ هل يركضون على بساط من النور، بأقدام صغيرة لم تعد تعرف التعب؟ هل يركبون دراجاتهم كما كانوا يفعلون على الأرض، لكن هذه المرة بلا طرقات وعرة أو حواجز تعيق انطلاقهم؟ هل يحملون دمى جديدة، ليست كباقي الدمى، بل تلك التي تنبض بالحياة، تشاركهم أحلامهم وتضحك معهم بصوت لا يخبو؟
ربما هناك ألعابهم مختلفة، تتجاوز ما يمكن أن نتصوره. ربما تطير دماهم معهم فوق الغيم، أو تهمس لهم بقصصٍ عن السلام الذي طالما اشتاقوا إليه. ربما يلعبون مع الطيور التي ترقص معهم في حلقات من فرح أبدي، أو يتسابقون مع الريح التي لا تحمل في طياتها غبار الحرب.
أراهم يضحكون ملء قلوبهم، ضحكات لا يقطعها انفجار ولا ينطفئ نورها تحت الركام. أراهم يملأون السماء بصخب طفولتهم، كما لو أنهم يعوضون كل لحظة خوف عاشوها على الأرض. ريم تضحك وهي تركض خلف طارق، تحملهما خطواتهما نحو بساتين لم تُدنس، وسماء لا تغزوها الطائرات.
لا أعرف الكثير عن عالم السماء، لكنه عالم أؤمن أنه أرحم من هذه الأرض. عالم لا ينكسر فيه القلب ولا تذبل فيه الأحلام. ما أعرفه يقيناً هو أنهما الآن بعيدان جداً عن غارات العدو، ولن يختبرا الموت مرة أخرى. هما الآن في مكانٍ لا تصل إليه القسوة، حيث الطفولة تستعيد براءتها، وحيث الأحبة يلتقون تحت ظلال من نور لا ينطفئ.
خالد نبهان، لم تكن مجرد جد طيب، كنت روحاً للروح، وستبقى روحك حية في قلوبنا، تروي لنا قصة الصبر، الذي لا ينكسر، والحب الذي لا يموت.

مريم مشتاوي 

كاتبة لبنانية