عن فلسطين والدراما وعن البيت والمفتاح
هل يمكن أن يصنع الغربُ فيلماً محايداً عن الفلسطينيين؟ ذلك أمرٌ ليس بيسير، ولكن هل يمكن أن يصنع الغرب فيلماً منحازاً للفلسطينيين بوضوح تام؟ ذلك أمر مستحيل. إلا أن المخرج بيتر كوسمنسكي حقق ذلك بجرأة استثنائية في مسلسله القصير (الوعد HYPERLINK “http://www.imdb.com/title/tt1692202/?ref_=ttfc_fc_tt” The Promise) الذي أنتجته قناة چنال + وتلفزيون آرتيه الفرنسي عام 2011.
أعود لمشاهدة هذا العمل من جديد خلال فترات متباعدة، ويبقى محتفظاً ببريقه وبشجاعته التي تتضاعف يوماً بعد يوم، في ضوء ما شهدته القضية الفلسطينية، ما بعد بثه، إذ يبدو أكثر ضرورية الآن في ظل التعتيم (العربي أولاً، والغربي ثانياً) في مجال الدراما التلفزيونية على فلسطين وقضيتها، رغم ما عاشته فلسطين من تحولات كبرى منذ مسلسلَي “التغريبة” و”الاجتياح” وما تعيشه غزة ويجري التعتيم عليها أو دفنها، سواء كان ذلك بإعلام وفيديوهات ملفقة أو بإنتاجات أكثر تلفيقاً تُفتح لها أبواب الفضائيات الكبرى ومنصات البث التي باتت أكبر وأكثر تأثيراً وانتشاراً، ولعل مسلسلاً مثل مسلسل “فوضى” الصهيوني نموذج دالّ وبعمق على هذا المدى المفتوح للأعداء ليقولوا ما يريدون، ومتى يريدون، وحيثما يريدون بلا أي نوع من التقييد أو الرقابة أو التخوّف من قيام دنيا لن تقعد عند بثّ كل هذا الكذب على الهواء، وفي كل بيت تصله هذه المنصات.
في حلقات المسلسل الأربع (6 ساعات تقريباً)، لا يدخر المخرج الذي كتب سيناريو مسلسله أيضًا، جهدًا في مجال فضح أكذوبة الرواية الصهيونية وحقها في أرض فلسطين. وهو يتحرّك بسلاسة في مسافة زمنية ممتدة من عام 1945 – نهاية الحرب العالمية الثانية- حتى اليوم تقريباً، عبر خطين دراميين متقنين: الأول يدور في السنوات الثلاث السابقة للنكبة، والآخر في زمن الجدار الفاصل ونسف البيوت الفلسطينية وسحق كرامة البشر. يختار المخرج/ الكاتب شخصيات عمله بإتقان، بدءًا من الشابة البريطانية الذاهبة إلى (إسرائيل) لدعم صديقتها اليهودية البريطانية الذاهبة للالتحاق بالجيش، ملقياً ببطلته في قلب الأحداث الملتهبة، من خلال قراءتها لمذكرات جدها المريض: الجندي الذي خدم في الجيش البريطاني في فلسطين؛ إذ تبدأ بالتعرّف إلى حياة جدها منذ صعودها للطائرة، وما يلبث المخرج أن يلقي بها في واقع مرير يعيشه الفلسطينيون المهجَّرون من أرضهم.
ولعل اختيار المخرج لتقنية (الرحلة) أسلوباً عزّز من صدقيّة عمله هذا، فالشخصية الأساسية تأتي غير محمَّلة بأفكار مسبقة حول القضية الفلسطينية، وبالتالي تغدو الرحلة هنا رحلة سفر ورحلة اكتشاف للواقع واكتشاف للذات.
في كل حرف في الحوار الذكي هناك موقف واضح من عدالة قضية الفلسطينيين، وموقف صلب تجاه العصابات الصهيونية وأعمالها الإرهابية العنيفة أو تلك التي تتخذ من قاعدة “الغاية تبرر الوسيلة” منطلقاً، حيث يجري تجنيد آلاف النساء والفتيات اليهوديات لإقامة علاقات غرامية مع الجنود البريطانيين، للوصول إلى معلومات تساعد المنظمات الصهيونية، وللتأثير عليهم كي يرسلوا إلى أهاليهم رسائل تمتدح اليهود في فلسطين. أما على صعيد الواقع الحالي فيبدو، حتى الجندي الذي رفض الخدمة في الجيش الصهيوني، بعد تجربة قاسية مع طفلة فلسطينية في الخليل، يبدو هذا الجندي وقد انضم فيما بعد لجماعة (السلام الآن) غير متردد في أن يحمل الرشاش ويطلق النار باتجاه الفلسطينيين في الخليل نفسها، وحين تسأله الشابة البريطانية: ألست رجل سلام؟! يرد: هذا أمر يتعلق بالولاء.
يفضح المخرج الجرائم الإسرائيلية ومنفذيها، ويعتبرها أساس الإرهاب، كما يفضح أكذوبة (السلام الآن)، وأسطورة الحقّ الإلهي، حين يكشف في مشهد مواجهةٍ أن والد الصديقة اليهودية هو من أصل بريطاني وزوجته من أصل هنغاري.
لكن المسلسل الذي يعري بشجاعة المشروع الصهيوني، لا يتردّد في إدانة الجرائم النازية ضد اليهود، وهو يتكئ على هذه الإدانة لإدانتهم بجرأة أكبر على ما سيرتكبونه من جرائم لاحقة، حيث نرى الجد في نهاية مذكراته يضع القلم بعد أن يكتب هذه العبارة: (لقد تركنا العرب -عام 1948- في وضع مزر… قبل ثلاث سنوات، عندما انتهت الحرب، كان يمكن أن أقول: أعطوا اليهود كل ما يريدون، فهم يستحقونه بعد كل ما عانوه، ولكنني لست متأكداً من ذلك الآن! لقد ولِدَتْ دولتهم وسط العنف والوحشية، ولا أعرف كيف يمكن أن تزدهر دولة كهذه!)
“الوعد” عمل شجاع، ينتهي بانضمام الجد إلى المقاومة الفلسطينية عام النكبة، ونجاح حفيدته، بعد ستين عاماً، في إعادة مفتاح بيت الفلسطيني لأصحابه، المفتاح الذي بقي مع جدها عام النكبة بعد استشهاد حفيد صديقه “أبو حسن”، وهي إشارة معنوية مهمة.
ولكنّ السؤال المرّ يبقى قائماً: لقد أعاد البريطانيون المفتاح، ولكن ماذا عن البيت نفسه؟!
وبعـــد:
أستعيد هذا كله اليوم في ضوء تجربة عايشتها شخصيًّا قبل إنتاج مسلسل “الوعد”، بثلاث سنوات وبعد ظهوره، تتعلق بإنتاج مسلسل عن رواية “زمن الخيول البيضاء” وقَّع عقد إخراجه الراحل الرائع حاتم علي، وخلال هذه الفترة الممتدة منذ 16 عاما، أُفشِلَتْ محاولات جادة للغاية في إيصال هذا العمل التلفزيوني إلى الشاشة الصغيرة، وجوبه بصعوبات من نوع فريد من قبل الفضائيات العربية، حتى إن قناة (هي اليوم في صلب عملية التطبيع) طلبت عام 2009 أن يتم تغيير المكان الذي تدور فيه الأحداث، أي ألّا يكون فلسطين، شرطاً لشراء حقوق بثه، وتبعتها قناة شبيهة، هي اليوم قناة مطبعة علناً، بالسماح بتحويل الجزء الأول من الرواية إلى مسلسل بدوي! ثم جاءت محاولتان خلال العام الماضي بلغت إحداها عتبة المرحلة الأولى للتصوير، وتم التراجع بصورة غير مفهومة، أما حجج الجهة الثانية فقد كانت أوهى بكثير، وها نحن اليوم نبدأ المحاولة الرابعة التي تبدو لي مخلصة جداً للعمل، وحاضنة له بقوة، ومتمسكة بكل حرف فيه، حرصاً على رسالته وتنفيذه ضمن أفضل مقاييس الإنتاجية في عالم الدراما اليوم.
ابراهيم نصر الله