جولانيون أكثر من الجولاني …!!!!

د.مهند العزة

 في الوقت الذي استقبلت فيه شعوب الأرض سقوط بشار الأسد ونظامه برضى وسعادة، لم يرق ذلك لمؤيدي الطغاة والمقتاتين على موائدهم في بعض الدول التي أطلقت لأبواقها الإعلامية لتقول ما لا تستطيع هي البوح به رسميا، فأخذت هذه الأبواق تبكي المجرم الفار من وجه العدالة وتلوم الضحايا وتحذر المحتفلين بتحرير معتقلين تحسب فترات حبسهم وتعذيبهم بالعقود لا بسنين، وذلك بباعث الخوف من عدوى إسقاط الأنظمة التي شهدتها أروبا في ربيعها في نهاية الثمانينيات و«الربيع العربي» منذ 15 سنة.

 في المقابل، ثمة من غلبتهم غريزة صناعة الصنم وتقديسه تمهيداً لعبادته، وقد تجلّى هؤلاء في من يكيلون المديح المبالغ فيه لأبو محمد الجولاني باسمه الفني الجديد «أحمد الشرع»، ولا يمكنك أن تنعى عليهم خوضهم هذا، فذاك شأنهم وإن كان وثني النزعة والمآل، إلا أن تبعات بدايات هذا التقديس تجلت في الإنكار والهجوم على كل من يذكر بتاريخ الجولاني الإرهابي الموثّق ونزعته الأصولية ونشأته القاعدية التي لا يمكن لأحد إنكارها،  ثم صبّ اتهامات التشكيك والعمالة على من يطرح أسئلةً منطقيةً ومشروعةً حول مستقبل الحكم وإدارة الدولة الذي ليس كما يروج البعض أنها «مسألة مؤجلة» بل هي ذات الأولوية القصوى، فالقول أن الأولوية هي توفير الخدمات وحفظ الأمن، هو أدعى بالتسريع بالتوافق على هوية الدولة وشكل الحكم فيها، لأن المرافق الخدمية والأمن والسلم الاجتماعي مسائل تتحدد مضامينها وطرق إدارتها وتمكين المواطنين منها بعدالة ومساواة وفقاً لنهج وتوجه السلطة القائمة، والنهج والتوجه يحددهما ولا ريب الإيديولوجية السياسية والعقد الاجتماعي المؤطر في الدستور.

 الجولانيون في منطقتنا أخذوا المنحى ذاته الذي تتخذه غالبية المتعصبين للقادة والتيارات المتشددة سواءً كانت دينية أو عسكرية أو يمينية محافظة، فتراهم ينهالون عليك تارةً بتهم «تعكير أجواء الفرح.. أو التشكيك في كل انتصار.. أو عدم لوم الطرف المجرم بما فيه الكفاية على حساب الطرف الذي أنجز مهمة إسقاط النظام المستبد..».، والحقيقة أن هذا الحجر على الرأي ورفض سماع ما يخالف وجهة النظر، هو بحد ذاته نذير شؤم على المستقبل السياسي لسوريا. إذ في الوقت الذي يحاول فيه الشيخ أبو محمد الجولاني إخفاء عباءة القاعدة التي خرج من تحتها وارتداها لسنوات من الصورة بكل ما أوتي من حكمة وهدوء وحنكة، ينافح مؤيدوه من الجولانيين على غير هدى عن الرجل محاولين تبرير تاريخه الإجرامي الإرهابي عوضاً عن الاعتذار عنه والدعوة لتجاوزه إذا كانت هناك نية فعلية للقيام بذلك، مع ملاحظة أن تجاوز أي تاريخ إجرامي يتطلب بدوره اعتراف المجرم بجرائمه وإعلانه الندم عليها ثم طلب صفح الضحايا وتعويضهم وتقديم ضمانات ملموسة بتبني نهجاً ومنهجاً قوامه التعايش والتنوع. يزعج الجولانيون العرب والمسلمون  مجرد تساؤلك أن كيف يمكن لمن تبنى فكر القاعدة ولم يتبرأ من تبني الفكر السلفي الجهادي حتى اليوم، ومن ارتكب من جرائم الحرب ما لا يخفى على شاهد عيان أو موثّق أو مؤرخ، ومن اختطف موظفين يعملون مع الأمم المتحدة.. ومن حكم إدلب بالفكر الأصولي.. أن يوافق على دستور مدني يسمح بحرية الرأي والتعبير والعبادة واللباس ويساوي بين الرجل والمرأة في العمل والتعليم ويدعم الفنون وينقل السلطة إلى من يفوز بها بهدوء وسلام.

 لا تملك إلا أن تحزن على بعض من يصنفون أنفسهم «بالمعتدلين» من حسني النوايا الطيبين، وهم يقولون ببراءة لا تعرفها السياسة: “الرجل ربما تغيّر”، ولربما يستحضر بعض هؤلاء –إن كان مضطلعا- ما قامت به بعض قيادات الأخوان المسلمون من «مراجعات» مثل د. عبد المنعم أبو الفتوح الذي نتمنى له الحرية والفرج في أقرب وقت.. فمثل هذا القول الذي يعكس سطحيةً وعدم وعي كافي بالسياسة يخلط بين البرغماتية التي عادةً تغيّر التكتيكات لتنسجم ومتطلبات القوى التي بيدها إحداث التغيير و/أو التمكين والمحافظة عليه، وبين التحول الكامل عن المعتقد والعقيدة السياسية والإيديولوجية، فعقيدة الجولاني السلفية لا تقبل الاختلاط ولا تولية المرأة مناصب في القضاء أو البرلمان أو الحكومة لأنها تحت قوامة الرجل ولا يجوز شرعاً أن تكون لها ولاية على رجال الأمة لا في إمامة الصلاة ولا في إدارة شؤون الدولة، فهل تحول الجولاني من سلفي جهادي إلى معتدل تامّ على أقل تقدير يمكن أن يترأس حكومة مستقرة نتاج دستور دائم بها وزراء مسيحيون وعلوييون ودروز وكرد ووزيرات محجبات وغير محجبات ، وشخص يحترم حقوق الأقليات، والاحترام هنا لا يتحقق بمجرد القول «أنهم آمنون وأحرار في شعائرهم وممارساتهم»،، لأن هذا القول يجسد أحكام أهل الذمة المكلفون بالجزية مقابل عقد الأمان وحرية الشعائر بحدود،فكأن لسان الحال يقول «أنهم آمنون أحرار وبدون جزية». احترام حقوق الأقليات يتحقق بإشراكهم بفاعلية في بناء الدولة وإدارتها  دون أي تمييز.

 إذا كان الجواب على ما سبق بالإيجاب وارتد الجولاني إلى جادة الصواب هاجراً الفكر الأصولي المتطرف، فبها ونعمت ونغدو أمام السيد أو الأستاذ أحمد وليس الشيخ أبو محمد الجولاني مؤسس جبهة النصرة، وبهذه المناسبة فإن من يرى في تهافت الوفود الأروبية والأمريكية على سوريا ولقاءاتها مع الشيخ الجولاني دليلاً على تحوله الفكري المأمول، والواقع أن هناك ما لا ينبغي إغفاله أو التغافل عنه في هذا المقام، وهو أن ما يهم الأوربيين والأمريكيين بالدرجة الأولى والثانية والثالثة هي مصالحهم الاستراتيجية، فموقف الجولاني من الصراع مع إسرائيل ومن التواجد الروسي ومن إيران وحزب الله والميليشيات في العراق ومن الحراك الكردي في الشمال الذي يؤرق تركيا.. جميعها تشكل الفصّالات الأساسية التي ينفتح عليها الباب أو يغلق  بينه وبين هذه الدول. أما الحريات والحقوق على الصعيد الوطني، فلا بأس أن تكون حاضرةً لكن في خلفية الصورة وليست في صلبها، ولا أدل على ذلك من أن هذه الدول نفسها على مدار تاريخها تقيم علاقات وثيقة مع أنظمة تنتعل حقوق الإنسان -بما فيها حقوق المرأة والأقليات- وتفترش المدافعين عنها. فهل ستعبأ تلك الدول حقاً بما إذا كان الشيخ أبو محمد الجولاني سيحكم سوريا بمنهج وهابي مخفف أو حتى ثقيل؟

 الخوف على مستقبل سوريا ليس من الجولاني ولا من قواته المسلحة بل ممن فُطِروا على ضرورة وجود صنم يمجّدوه ويقدّسوه ثم يعبدوه ثم يشتكون لحصى الأرض من استعباده لهم.

  حينما قال الشيخ أبو محمد الجولاني أن مسألة رئاسته لسوريا من عدمها يحددها الشعب السوري، فقد كان صادقاً ومن وجهة نظري واثقا، فأنا على يقين أنه في حال ترشحه للرئاسة سوف يفوز وبغالبية معقولة جداً دون تزوير انتخابات أو تلاعب بها، لأن دراويش أصنام الحكّام يقومون بمهمتهم على أكمل وجه منذ تحرير دمشق.. أو إن كان يروق لك: «فتحها» إن كنت جولانيا، وإن كنت كذلك، فحاول على الأقل ألّا تكن جولانياً أكثر من الجولاني نفسه.