"العاشق الذي ابتلعته الرواية: من ظريف الطول إلى أسطورة الهوية الفلسطينية"


تبارك الياسين تحاور الكاتب أسيد الحوتري


يطل أسيد الحوتري في روايته "العاشق الذي ابتلعته الرواية"، الصادرة عام 2024 عن دار الخليج للنشر والتوزيع، برؤية سردية جريئة تربط بين الحكاية الشعبية والأسطورة الكنعانية ووجع الواقع الفلسطيني. من خلال استحضار شخصية ظريف الطول بوصفها عاشقاً ومقاوماً، يفتح الكاتب أفقاً جديداً لإعادة قراءة الهوية الفلسطينية عبر النص الأدبي. الرواية تتجاوز كونها سرداً تقليدياً، لتتحول إلى مساحة تجمع بين الحب والذاكرة والمقاومة، حيث يذوب العاشق في النص كما يذوب الفلسطيني في حكاية وطنه التي لا تنتهي.


‎العاشق الذي ابتلعته الرواية / أسيد الحوتري

 

١- ما الذي يرمز إليه عنوان الرواية "العاشق الذي ابتلعته الرواية"، وكيف يعكس رفض الابتلاع بالبطش الاستعماري؟

 

هذا سؤال يذهب مباشرة إلى قلب الرواية، وإلى المعادلة الرمزية التي أنسجها. العنوان "العاشق الذي ابتلعته الرواية" ليس مجرّد صياغة شاعرية، بل هو بناء رمزي على المستوى الشخصي/الذاتي حيث يظهر في "العاشق": "ظريف الطول" الذي يذوب في حكاية أكبر منه، ويصبح جزءاً من نصّ يكتبه القدر أو التاريخ أو الأسطورة أو الحكاية الشعبية الممتدة بتمهيد وتتمة، فيفقد حدوده الخاصة وينصهر في رواية تتجاوزه، أو بالأحرى في قضية تجاوزت حتى هذه اللحظة قدرة البشر على إيجاد حلا لها: القضية الفلسطينية. هذا ابتلاع طوعي، قائم على الحب: حب الوطن، والتضحية من أجل الأرض، على مقاومة كل قوى الشر في العالم مهما كان الثمن: نصر (بَلْع) أو شهادة (ابتلاع) في هذين الخيارين تتجلى مواجهة البطش الكولونيالي الاحتلالي الإحلالي.

 

‎2ـ كيف يجمع الفصل الأول "العتبة" بين الحكاية التراثية والواقع السياسي للقضية الفلسطينية؟

يجمع الفصل الاول "العتبة" بين الحكاية التراثية والواقع السياسي للقضية الفلسطينية بأسلوب يُنسج بين الماضي والحاضر، بين الخيال والواقع. فالحكاية التراثية تصوّر فتى وسيمًا طويل القامة (ظريف الطول)، يرفض متعة الحياة الشخصية والزواج، وينصرف إلى شراء السلاح والدفاع عن قريته ضد عدو غاشم، حتى بعد مواجهة حاسمة يختفي ولا يعرف أحد مصيره. هذه الصورة الأسطورية للفارس المقاوم تحمل في طياتها قيم الشجاعة والإيثار والتضحية، وتشكل نموذجا رمزيا للصمود الذي يُحتذى.

وفي المقابل، الواقع السياسي للفلسطينيين ينسخ تقريبا نفس السيناريو. القرى والمدن الفلسطينية تتعرض يوميا لهجمات العدو، فيتصدى لها الرجال الشجعان ببسالة، بعضهم يختفي في خضم الصراع، وبعضهم يختفي ليعيد ترتيب صفوفه ويعاود الكرّة من جديد. بهذا الشكل، يتحول الفصل إلى جسر بين الحكاية التراثية والواقع المعاصر، ليجعل من الفتى الأسطوري صورة حية للمقاومين الفلسطينيين اليوم، وتجربة الماضي مرآة تعكس صمود الحاضر، وتؤكد أن البطولة والتضحية ليست مجرد حكايات بل واقع ملموس.

وهكذا يتحقق التلاقي بين الخيال السياسي والواقعي، فيحوّل السرد التراثي إلى مرآة عاكسة لمعاناة الشعب الفلسطيني، ليصبح النص أكثر من مجرد حكاية، بل شهادة حية على الاستمرار في مواجهة القهر والعدوان، وعلى قدرة الإنسان على الصمود في مواجهة قسوة التاريخ.

‎3ـ كيف ترتبط الرواية بروايات أخرى مثل "المتشائل" لإميل حبيبي و"البحث عن وليد مسعود" لجبرا إبراهيم جبرا؟

ترتبط هذه الروايات جميعًا بموضوع "الاختفاء والغياب"، لكن كل منها يستخدم هذا العنصر بطريقة مختلفة لتسليط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية والوجودية. في البحث عن وليد مسعود لجبرا إبراهيم جبرا، غياب وليد مسعود يطرح سؤالًا وجوديًا واجتماعيًا، هل اختفى بسبب ظروفه الشخصية أم بسبب القوى السياسية المحيطة به؟ الاختفاء يثير التساؤل ويعكس حالة الغموض والاضطراب في المجتمع. اختفاء وليد مسعود ليس مرتبطا بمكان محدد يُكشف عنه، بل هو عنصر سردي رمزي يتيح للكاتب تفكيك الهوية الفلسطينية، وتجسيد فقدان الانتماء والاستقرار في مجتمع تحت الاحتلال أو في حالة الشتات.

في المتشائل لإميل حبيبي، الاختفاء في قصة سعيد أبي النحس مرتبط بالخيال والسخرية، حيث يُعزى إلى الخطف بواسطة مخلوقات فضائية. هنا، الاختفاء يسلط الضوء على سخرية الواقع الفلسطيني والصراع السياسي بطريقة رمزية وكوميدية. سعيد اختفى بشكل خيالي وساخر، خطفته مخلوقات فضائية كرمز للضغوط السياسية والاجتماعية، وذلك ليبرز مأزق الفلسطيني بين الواقع والخيال والمقاومة الروحية، والأمراض النفسية والعقلية التي تسبب بها الاحتلال.

في العاشق الذي ابتلعته الرواية، الاختفاء يحدث بشكل متكرر ومتسلسل (في حالة ظريف الطول)، لكنه مرتبط مباشرة بالمقاومة والالتزام بالوطن والصراع ضد الاحتلال. الاختفاء هنا ليس مجرد غياب، بل رمز للمقاومة، والتغيير، والمثابرة على الحق. وكما يشير الاختفاء إلى تبدل الحال، والانتقال من طريق الباطل إلى جادة الصواب، فأن كان غريب عميلا في الأمس فلقد أصبح اليوم فلسطينيا مقاوما.

في الروايتين الأخريين، الغياب مرتبط بالبحث عن الحقيقة أو حالة اللايقين السياسي والاجتماعي، بينما في العاشق يصبح جزءًا من الحركة النضالية، فالشخصيات تختفي وتعود، تختفي وتقاوم، تختفي ويستمر الآخرون في المقاومة. هذا يعطي الاختفاء معنى رمزيًا أوسع، فالغياب ليس موتًا، بل استمرار للصراع والمقاومة.

كل هذه الروايات تستخدم الغياب أو الاختفاء كأداة سردية لإظهار أثر الصراع على الإنسان والمجتمع، وتعكس تجربة فلسطينية أو عربية مشتركة، إذ يعكس غياب الأبطال غياب الأمان أو العدالة أو الاستقرار السياسي والاجتماعي. الاختلاف يكمن في أسلوب السرد، حيث يميل جبرا إبراهيم جبرا إلى الغموض والدراما، وحبيبي إلى السخرية والخيال، بينما تمزج" العاشق" بين الرمزية والسياسة والمقاومة العملية.

باختصار، يمكن القول إن الاختفاء في هذه الروايات يشكل محورًا رمزيًا يسمح للكاتب باستكشاف أسئلة الهوية والمقاومة والفقدان والتغيير والوعي السياسي، مع اختلاف الأسلوب والبعد الرمزي بين كل رواية وأخرى.

‎4ـ هل ترى في الرواية نسخة فلسطينية من "روبن هود"، وكيف يعبر ذلك عن التمرد على الظلم؟

سرقة ظريف الطول من مؤمن العاصي والشيخ مختار ليست جريمة بالمعنى القانوني، بل عدالة بديلة، لأنه يأخذ من رموز الاستغلال والسلطة ليرد المال للشعب. هنا يظهر ظريف الطول كمتمرد على نظام ظالم، حيث الشرعية لا تقاس بقوانين السلطة بل بحقوق الناس.

قتله للشيخ وابنه يرمز إلى قطع رأس الاستبداد المحلي، وكأن الحكاية تقول إن العدل لا يستقيم إلا بزوال رموزه الجشعة. هذا الفعل الدموي تحول إلى مقاومة جذرية. الفعل النهائي، أي توزيع المال على الشعب، هو الذي يشرعن التمرد، فالمال لا يختزن عند المتمرد بل يعود إلى الناس، وبهذا يصبح ظريف الطول لسان حال الشعب ومنقذا لهم من الفقر والحرمان.

من هنا تبرز المقارنة مع (روبن هود)، فكلاهما يسرق من الأغنياء ليستعيد حق الفقراء، لكن الفرق أن ظريف الطول يرتبط بمأساة استعمارية وطنية، بينما روبن هود يتحرك في إطار ظلم طبقي داخلي. ظريف الطول يضيف بعدا فلسطينيا خالصا، إذ التمرد ليس فقط ضد أسياد ظالمين، بل ضد منظومة استعمارية تريد سلب الأرض والذاكرة معاً

إدخال هذه الأفعال في رواية "العاشق الذي ابتلعته الرواية" يجعل من العاشق شخصية مزدوجة، فهو عاشق للحب يطلب المحبوبة رمزاً للأرض، وعاشق للعدل يواجه السلطة بالسرقة والتوزيع. بذلك يصبح العاشق أو ظريف الطول تجسيداً لتمرد شعبي عادل يذكرنا بـ(روبن هود)، لكنه يختلف عنه في أن دمه مشبع بالجرح الفلسطيني، وأن مقاومته ليست فقط استعادة خبز، بل استعادة وطن.

‎5ـ ما أهمية السرد الميتا-روائي (الرواية داخل الرواية) في بناء العمل؟ ‎

ملامح الميتاسرد في "العاشق الذي ابتلعته الرواية" تتضح من خلال تعدد الحكايات وتداخلها، حيث تتحول الرواية إلى فضاء تتناسل فيه النصوص بعضها من بعض، فيتلاشى الخط الفاصل بين ما هو "حكاية" وما هو "واقع" وما هو "تعليق أدبي".

شخصية الأديب داخل النص تقص على غريب روايتين من أهم معالم السرد الفلسطيني المعاصر، "المتشائل" لإميل حبيبي و"البحث عن وليد مسعود" لجبرا إبراهيم جبرا، فيضع بطل روايته في مواجهة نصوص أخرى سبقت، وكأن الحكاية الجديدة لا يمكن أن تُبنى إلا بالحوار مع نصوص سابقة. هذا إدماج ميتاسردي واضح، حيث تتحول الروايات الأخرى إلى جزء من الرواية نفسها، فتتجاور النصوص داخل النص، ويصبح غريب شاهدا على تاريخ السرد الفلسطيني كله لا على حكاية فردية فحسب.

كما يقص الأديب على غريب حكاية ظريف الطول الشعبية، ليضع الحكاية الشفوية في قلب النص المكتوب. بهذا تتحول الرواية إلى وسيط يعيد إنتاج التراث الشعبي داخل بناء سردي حديث. وتزداد الطبقات حين يقص الأديب أيضا الحكاية القبلية، أي أسطورة الإله عليان بعل، التي تُقدَّم بوصفها الجذر الأسطوري الأول لحكاية ظريف الطول. هنا يظهر الميتاسرد في أبعد صوره: النص يكشف مصادره، ويعلن أن حكاية الحاضر وُلدت من رحم أسطورة قديمة.

ثم تأتي حكاية ظريف الطول البعدية التي يقصها الأديب أيضا على غريب، فيؤكد استمرارية الحكاية وعدم توقّفها عند زمن محدد. هذه الحركة بين "القبلي" و"البعدي" تجعل النص أشبه بدائرة سردية تتوالد باستمرار، لا تعرف بداية ولا نهاية.

وأخيرا، هناك جزء من قصة غريب نفسه، الذي كان فاقدا للذاكرة. الأديب يخبره عن نفسه بالتلميح لا بالتصريح، فيجعل من سيرته الشخصية جزءاً من لعبة الحكايات، حيث يكتب البطل تاريخه من خلال كلمات غيره. هذا أيضا ملمح ميتاسردي مهم: السيرة الفردية لا تُروى مباشرة بل عبر وساطة، فتتحول إلى نص داخل النص.

ويضاف إلى كل ذلك أن الرواية في مجملها ليست سوى رسالة يكتبها غريب عايش الأسير إلى القارئ، وهذا ما يتكشف في آخر الرواية. هذا الإطار الرسائلي يضيف بعداً ميتاسردياً آخر، إذ يكشف أن القارئ نفسه جزء من اللعبة السردية، فهو المخاطَب المباشر بالرسالة، وهو الذي يجب عليه أن يواصل حمل الحكاية بعد أن تنتهي. بذلك لا تبقى الرواية نصاً منغلقاً، بل تتحول إلى نداء حيّ يعبر من غريب عايش الأسير إلى القارئ، ومن القارئ إلى العالم، ليصير كل واحد بدوره شاهداً وناطقاً بالأسطورة الفلسطينية.

6ـ ما دور التراث الشعبي الفلسطيني في إعادة كتابة أسطورة فلسطين، وكيف تتناسخ الأساطير في الواقع المعاصر؟

 

الأسطورة هي حكاية رمزية قديمة تنسج علاقة الإنسان بالقوى الكونية والغامضة: الآلهة، الموت، الولادة، الطبيعة، المطر، الخصب. إنها ليست مجرد قصة، بل تصور للعالم، محاولة لشرح المجهول وتبرير المصير. لذلك نرى أسطورة عليان بعل في النص مرتبطة بالماء والخصب والموت والبعث، حيث يُبتلع ويعود، وكأن دورة الكون تنعكس في حكايته.

أما الملحمة فهي نص شعري طويل، يروي بطولات جماعية في مواجهة أعداء أو قوى عظمى، مثل الإلياذة أو المهابهارتا. الملحمة لا تشرح الكون، بل تحتفي بالبطل الذي يذوب في الجماعة، وتكتب تاريخها البطولي. جوهرها هو البطولة الإنسانية، بينما جوهر الأسطورة هو التفسير الكوني.

بعد هذا التمييز، يمكن القول إن التراث الشعبي الفلسطيني في الرواية يستفيد من الاثنين معاً، لكنه يقترب أكثر من الأسطورة. فـ"ظريف الطول" ليس فقط بطلا ملحميا يواجه الظلم، بل هو أيضا استمرارية لأسطورة بعل، أي رمز كوني يتكرر ويتجدد في كل مقاوم فلسطيني. الرواية تعيد كتابة أسطورة فلسطين حين تنسج خيوطا بين الأسطورة القديمة (بعل) والحكاية الشعبية (ظريف الطول) والواقع السياسي المعاصر (المقاوم الفلسطيني).

الأساطير تتناسخ هنا بوضوح: فبعل الذي ابتلع "يم"، ثم ابتلعه "موت" يعود في هيئة ظريف الطول الذي يواجه والمتكبر والمتجبر والخائن، ويعود ثانية في هيئة المقاوم الذي يواجه الاحتلال والاستيطان. وفي كل مرة تتغير الملامح، لكن البنية الرمزية تبقى: البطل يُبتلع ثم يعود، يُهزم ثم ينهض، يموت فردا ويُبعث رمزا جماعيا.

بهذا، تؤكد الرواية أن الفلسطيني لا يموت أبدا، بل يتوارى ليعود في صورة أخرى، كما يعود الفينيق من رماده، في دورة أبدية من الفقد والبعث. هذه الرؤية الأسطورية تعطي للوجود الفلسطيني معنى يتجاوز حدود التاريخ والسياسة، ليصبح أسطورة كونية عن الحياة التي لا تنطفئ.

‎‎7ـ كيف يرمز ظريف إلى العاشق الفلسطيني الذي يرفض الابتلاع بالاحتلال؟

ظريف الطول في الرواية يُستعاد لا كحكاية غرامية بريئة، بل كقناع رمزي للعاشق الفلسطيني الذي يواجه مصيره أمام الاحتلال. فهو في جوهره عاشق، لكنه لا يذوب في محبوبته فقط، بل يذوب في صورة الأرض التي تتحول إلى المحبوبة الكبرى. رفضه لابتلاع الأعراف والسلطة في الحكاية التراثية يصبح في الرواية المعاصرة رفضا للابتلاع الاستعماري، فالعاشق يقبل أن تبتلعه الرواية حبا لكنه يرفض أن يبتلعه الاحتلال قهراً.

رمزية ظريف تكمن في أنه مطارد دوما، تماما كما يُطارد الفلسطيني في أرضه، لكنه لا ينكسر ولا يتنازل. المطاردة لا تحوّله إلى ضحية صامتة بل إلى بطل أسطوري تتكرر صورته عبر الأجيال. وهنا يتجسد الفارق بين ابتلاع الرواية وابتلاع الاحتلال؛ الرواية تمنحه حياة جديدة داخل النص، بينما الاحتلال يسعى إلى محوه من الجغرافيا والذاكرة.

بذلك يصبح ظريف صورة مصغّرة للعاشق الفلسطيني الذي يتمسك بكرامته، يسرق من رموز السلطة والظلم ليعيد للشعب حقه، ويقاتل كي لا يُمحى. هو عاشق يعرف أن الموت في سبيل الحب أو في سبيل الأرض أجمل من الحياة في ظل الهزيمة. الرواية تحوّله إلى رمز يُعلن أن الفلسطيني يمكن أن يبتلعه النص ليصير خالدا، أو يبتلعه الموت وهو يدافع عن وطنه، لكنه لا يقبل أن يبتلعه الاستعمار ليسرق حقه ويمحو أثره.

‎8ـ إلى أي مدى اعتمدت على التجريب في الشكل الروائي، وهل كان ذلك مقصوداً لإيصال فكرة محددة؟


الرواية قامت على التجريب بوعي واضح، فبنيتها لم تُصغ بالطريقة التقليدية التي تبدأ بحبكة وتنتهي بخاتمة مستقرة، بل بُنيت على تفكيك الزمن، وإدخال التراث الشعبي في جسد النص الحديث، وعلى لعبة الميتاسرد حيث تتحول الحكاية إلى رواية داخل رواية، والعاشق نفسه إلى شخصية يُعاد تشكيلها سردياً. هذا الشكل التجريبي لم يكن مجرد نزوة فنية، بل وسيلة مقصودة لإيصال فكرة أن الواقع الفلسطيني نفسه لا يمكن القبض عليه بخط مستقيم أو سردية واحدة.

من ملامح هذا التجريب أيضاً خلق رواية كاملة من حكاية إطارية (غريب والأديب) و حكاية شعبية (ظريف الطول) وأسطورة ( الإله عليان بعل)، ومن وقائع تاريخية، إذ ينطلق النص من الحكاية الشعبية ليعيد صياغتها في شكل روائي معاصر، ويستحضر في خلفيتها أسطورة الإله عليان بعل ليجعل منها قصة قبلية لحكاية ظريف الطول. هنا يضع الكاتب التراث الشعبي الفلسطيني في سياق كوني، كأنه يقول إن الأساطير القديمة لم تمت، بل تسربت إلى الوجدان الشعبي واستمرت في أشكال جديدة.

التأكيد على دوام أسطورة بعل ودوام حكاية ظريف الطول يمثل ملمحاً آخر من ملامح التجريب، حيث تتجاور الأسطورة القديمة مع الحكاية الشعبية ثم تتجسد في الراهن الفلسطيني. أفكار بعل المقاومة للشر والمحبة للخير التي تجلت في ظريف الطول ما زالت تتجلى في كل مقاوم فلسطيني، وبذلك تصبح الرواية مختبرا لتناسخ الرموز وتحوّلها، لا مجرد حكاية تُروى عن الماضي.

إلى جانب ذلك، يتجلى التجريب في كسر الخطيّة الزمنية، إذ لا تسير الأحداث بترتيب زمني تقليدي بل تتقاطع الأزمنة وتتماهى، فيصير الماضي الشعبي جزءاً من الحاضر السياسي، والحاضر نفسه يفتح على مستقبل أسطوري. كذلك هناك تجريب على مستوى اللغة، إذ تمتزج لغة التراث الشعبي بالإيقاع المعاصر، لتنتج نسيجاً لغوياً يعبّر عن التعدد الصوتي والتاريخي في آن.

بهذا يمكن القول إن التجريب في الرواية لم يكن مجرد تقنية جمالية، بل أداة فكرية وجمالية في آن واحد: وسيلة لفضح الاستعمار، وحيلة لإحياء الأسطورة في الحاضر، وإعلان أن فلسطين لا يمكن أن تُحكى إلا عبر كسر الأشكال التقليدية الجاهزة وبناء أشكال سردية جديدة.

‎9ـ إذا التهمت الرواية عاشقها في النص، فهل يمكن أن تلتهم القارئ أيضاً وهو يقرأها؟


إذا كانت الرواية قد التهمت عاشقها داخل النص، فإن هذا الفعل لا يتوقف عند حدود السرد، بل يمتد ليشمل القارئ نفسه. فحين يذوب العاشق في الرواية، يتحول إلى كائن أسطوري حيّ داخل النص، وحين يدخل القارئ هذا العالم يجد نفسه مسحوباً إلى الداخل، مشاركاً في الذوبان ذاته وخصوصا لأن المرسل: غريب عايش الأسير حمّل القارئ مسؤولية نشر الرسالة التي أرسلها له في آخر الرواية والتي هي الرواية نفسها. فالرواية ليست مجرد مرآة يتأملها القارئ من الخارج، بل هي رسالة وأمانة يجب على القارئ تبليغها، وهذا هو ابتلاعها له، بأنه أصبح جزءا من الرواية.

هذا الالتهام لا يُمارَس بالعنف، بل بالجاذبية. الرواية لا تبتلع القارئ غصبا، لكنها تسحره بلغتها وتداخل مستوياتها بين التراث والواقع، بين الحكاية الشعبية والأسطورة، حتى يشعر أنه لم يعد متفرجا بل شاهدا ومساهما في تبليغها. وهنا يظهر التشابه بين العاشق والقارئ: كلاهما يفقد حدوده الفردية ليصبح جزءا من الحكاية الجماعية.

دفّتا الرواية في هذا التصور هما فكاها، ورأس القارئ ينظر بينهما باستمرار، كأنه يتأمل العالم من داخل فم وحشي أو أسطوري. وكلما انغمس أكثر في القراءة، اقترب الفكان من الإطباق عليه، حتى يكاد أن يُسحق بينهما في أية لحظة. هذا الإحساس يولد توتراً داخلياً، يجعل القارئ يعيش تجربة الابتلاع لا رمزيا فقط بل حسيا أيضا.

وهذا الابتلاع لم يحدث مرة واحدة، بل تكرر في الرواية أكثر من مرة. حدث أولاً عندما ابتلع عليان بعل خصمه "يم"، فكان ابتلاعا أسطوريا يمنح الشرعية للقوة والحياة، ثم تكرر عندما ابتلع "موت" عليان بعل، فصار الابتلاع هذه المرة إعلانا عن الفناء والتحول. بين هذين المشهدين يتحرك المعنى: الرواية تستعيد من الأسطورة أن الابتلاع قد يكون حياة وقد يكون موتا، وقد يكون خلوداً رمزياً.

بهذا يمكن القول إن النص يقصد أن يبتلع القارئ كما ابتلع العاشق، وكما ابتلعت الأسطورة أبطالها. فالقارئ حين يقرأ عن ظريف الطول والمقاوم الفلسطيني لا يستطيع أن يبقى محايدا، بل يجد نفسه مضطرا للدخول في دائرة الرواية، إما بالتعاطف أو بالرفض أو بالاندهاش، أو بحمل الرسالة الموجّهة له من غريب، لكنه على أي حال لا يخرج منها كما دخل. الرواية إذن تعلن أن الحكاية الفلسطينية ليست قصة تُروى عن الآخرين، بل تجربة وجودية تهدد بابتلاع كل من يقترب منها.

سيرة ذاتية: 
.
أسيد الحوتري
·       ولد في دولة الكويت عام 1974م.

·       عاش في الكويت طفولته وحداثته ودرس في مدارسها، وأنهى الثانويّة العامّة في المملكة الأردنيّة الهاشميّة عام 1992م.

·       حاصلٌ على دبلوم اللُّغة التُّركيّة من مركز اللّغات في جامعة أنقرة، الجمهوريّة التّركيّة عام 1995م.

·       تابعَ دراسته الجامعيّة في كليّة اللُّغة والتّاريخ والجغرافيا في جامعة أنقرة، في الجمهوريّة التّركيّة؛ وحصل على شهادة البكالوريوس باللُّغة الفرنسيّة وآدابها عام 2000م.

·       أكمل دراساته العليا في الجامعة العربيّة المفتوحة في عمّان، الأردن، وحصل على درجة الماجستير في الأدب الإنجليزيّ عام 2018م.

·       مدرّب دوليّ معتمد، حاصل على شهادة ICL، وعضويّة CIPT.

·       عضو رابطة الكتاب الأردنيّين 2021م.

·       عضو مؤسس في (مبادرة نون للكتاب) 2022م.

·       عضو جمعيّة النّقاد الأردنيّين 2023م.

·       مترجم رباعي اللغة.

أعمال الكاتب:

·       القصّة:

·       النّظرات: مجموعة قصصيّة، الرّواية العربيّة للنشر والتوزيع، الأردن، 2021.

·       الهمسات: مجموعة قصصيّة، الرّواية العربيّة للنشر والتوزيع، الأردن، 2021.

·       اللّمسات: مجموعة قصصيّة، الرّواية العربيّة للنشر والتوزيع، الأردن، 2021.

·       نحت على جدار الورق: مجموعة قصصيّة، مشتركة مع نخبة من الكتّاب، المبدعون للنّشر، مصر، 2017.

·       ما وراء الحرف: مجموعة قصصيّة، مشتركة مع نخبة من الكتّاب، دار البيان للنّشر والتوزيع، مصر، 2016.

·       الرّواية:

-   كويت بغداد عمّان: الآن ناشرون وموزعون، الأردن، 2022. وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة (كتارا)، 2023.
.
- رواية: "العاشق الذي ابتلعته الرواية". دار الخليج للدراسات والنشر، ٢٠٢٤
.
·       النّقد الأدبيّ:

-   الجغرافيا الإمبرياليّة (Imperial Geography): مقارنة أدبيّة ودراسة نقديّة ما بعد كولونياليّة باللُّغة الإنجليزيّة لروايتي: (ممرّ إلى الهند) للكاتب الإنجليزيّ (إدوارد مورجان فورستر)، ورواية (الغريب) للكاتب الفرنسيّ (ألبير كامو). الرّواية العربيّة للنشر والتوزيع، الأردن، 2022.

-   معانٍ (Meanings): مقالات أدبيّة ونقديّة باللُّغة الإنجليزيّة. دار الخليج للنشر والتوزيع، الأردن، 2023.

-   روايات تحت الشّمس: مقالات نقديّة لروايات عربيّة. دار الخليج للنشر والتوزيع، 2023.
- مخطوط لمقالات نقدية في مجموعات قصصية أردنية يحمل اسم " في رحاب القصص"

·       علم الاجتماع:

-   سعادتك: فنُّ التّعامل مع النّعم: بحث في موضوع السّعادة، الرّواية العربيّة للنشر والتوزيع، الأردن، 2022.

·       كتاب الطفل:

-   حياة خاتم الأنبياء: مختصر السّيرة النّبويّة للأطفال باللّغتين العربيّة والإنجليزيّة، وكتاب تلوين. الرّواية العربيّة للنشر والتوزيع، الأردن، 2006.

·       ترجمات:

-   حدثَ في الآستانة: مختارات من القصة التركية الحديثة. الآن ناشرون وموزعون، 2023.
- إسطنبول تقول: مختارات من القصة التركية الحديثة. دار الخليج للنشر والتوزيع، ٢٠٢٥.