الذهب الأخضر بين الذاكرة والغلاء: موسم الزيتون الذي انقلبت موازينه

 

بقلم محمد النجار

في الوجدان الجمعي للأردنيين، ليس الزيتون مجرد شجرة تُثمر أو سلعة تُباع وتُشترى، بل هو هوية وطنية وتاريخ من الصمود. فمنذ قرون، تظلل أغصان الزيتون بيوت الريف، وتروي حكايات الجدّات عن بركته، وعن موسم القطاف الذي يتحول كل عام إلى عرسٍ قرويّ تتشابك فيه الأيدي قبل الأغصان.

كان موسم الزيتون في الذاكرة الشعبية موسماً للفرح والبركة، حيث يتسابق الأهالي إلى المعاصر لتذوّق "حذاقة الزيت" — تلك اللذعة الأولى التي تُبشّر بجودة المحصول. وكان التفاخر بين المناطق لا يقوم على الأنساب بل على نقاء الزيت وعبيره، حتى غدا مقدار ما تملك من أشجار الزيتون رمزاً للكرامة والوجاهة أكثر من كونه ثروة مادية.

لكنّ هذا العام، تبدّل المشهد كلياً. غاب المطر في معظم فصول العام، فتأثرت الأشجار التي تعتمد على مياه السماء، وانخفض إنتاج الزيت بنسبة كبيرة. تشير إحصاءات وزارة الزراعة الأردنية إلى أن إنتاج عام 2025 قد تراجع بما يقارب 60% مقارنة بالعام الماضي، نتيجة الجفاف وارتفاع درجات الحرارة التي ضربت مناطق الشمال والوسط، وهي الأكثر كثافة في زراعة الزيتون.

أمام هذا الواقع، قفزت أسعار تنكة الزيت إلى مستويات غير مسبوقة. المواطن الذي كان يملأ بيته بالزيت البلدي ليكفيه عاماً كاملاً، صار يحسب ثمن اللتر كما لو كان وقوداً فاخراً. لم يعد الحلم بامتلاك منزل هو الأسمى، بل تحوّل حلمه إلى الحصول على “تنكة زيت” تحفظ له نكهة الأرض وذاكرة الجدود.

في المقابل، يقف المزارع في مأزقٍ لا يقلّ صعوبة، فهو بين مطرقة كلفة الإنتاج وسندان تراجع المحصول. ومع كل نداء يطالب الحكومة بالتدخل عبر الاستيراد أو دعم المنتج المحلي، يبقى المواطن في حيرةٍ بين الخوف من فقدان “زيت البلد” الأصيل، والاضطرار لشراء زيتٍ مستورد أقل جودة وربما أقل أماناً غذائياً.

قد يكون هذا الموسم نقطة تحول في إدارة قطاع الزيتون الأردني، فالمناخ يتغير، والمواسم لم تعد كما كانت، وهذا يستدعي سياسات زراعية جديدة تعتمد على الحصاد المائي، والري التكميلي، وتطوير أصناف مقاومة للجفاف. فحماية شجرة الزيتون لم تعد مسألة تراث فقط، بل قضية أمن غذائي وطني.

حين يصبح الزيت رمزاً للبقاء

قد لا يدرك البعض أن الحديث عن الزيتون هو حديث عن الذات. فهو الشاهد الصامت على تاريخ الأرض وصبر الإنسان. وإن كان هذا الموسم قاسياً، فإن الشجرة التي واجهت الحروب والجفاف والحرائق ستبقى راسخة في التربة، تماماً كما بقيت الهوية الأردنية متجذّرة رغم الرياح.

فهل ستبادر الجهات الرسمية إلى إنقاذ ما تبقى من هذا الموسم لتبقى تنكة الزيت رمزاً للبركة لا للحسرة؟ أم سيبقى الذهب الأخضر رهينة المناخ والسوق؟