من دفء الديوانية إلى برود الشاشة... حين أصبحت العلاقات الأسرية عنواناً للتباعد الاجتماعي
بقلم محمد النجار
في زمنٍ لم يكن فيه من وسيلةٍ للتواصل سوى اللقاءات وجهاً لوجه، كان الإنسان أكثر دفئاً وإنسانيّة. كان يجتمع الأهل والأقارب في بيوت العائلة الكبيرة أو في الديوانيات، حيث تختلط الأصوات بالضحكات وتتعانق الحكايات. كان الجميع يُدلي بدلوه في النقاش، لا حاجز بين صغير وكبير، ولا شاشة تُسرق منها الأنظار. يومها كانت الألفة تصنعها الجلسة، وتُغزل خيوطها حول فنجان قهوةٍ أو وجبةٍ تُجمع عليها القلوب قبل الموائد.
تلك الأيام التي مرّت، كانت البدايات الحقيقية للتواصل الاجتماعي قبل أن تُسرق الكلمة من معناها. ومع مرور الزمن تغيّر المشهد، فانتقل الناس إلى المقاهي، يتحلّقون حول الحكواتي الذي يروي سيرة أبي زيد الهلالي والزير سالم وسيف بن ذي يزن، لتتوحّد مخيّلاتهم حول صوتٍ واحدٍ يحكي البطولة والشجاعة.
ثم جاء الراديو، فأطلّ صوتٌ من بعيدٍ ليقول لنا إن العالم أكبر مما ظننا، وأن خلف البحار أماكن تُدعى نيكاراغوا، كنا نحسبها من بلاد الواق واق. وبعده جاءت السينما، فظن الناس في أول عهدها أن الممثلين سيخرجون من الشاشة ليبتلعوا الحضور! ومع التلفاز دخلنا زمن الصورة، فكانت العائلة كلها تلتفّ حول شاشةٍ صغيرةٍ تبث ما تختاره إدارة القناة، وكان اجتماع المساء طقساً عائلياً لا يُستغنى عنه.
غير أنّ العالم انقلب فجأةً على عقبيه مع ثورة الاتصالات الحديثة. صار كلّ بيتٍ قريةً رقمية، وكل فردٍ فيه جزيرةً منعزلة. اجتمعنا في المكان وافترقنا في المعنى، وأصبح التواصل الافتراضي أكثر حضوراً من الوجود الحقيقي. ترى الأسرة تجلس حول مائدة واحدة، لكن كلٌّ منهم غارقٌ في عالمه الخاص، يسبح في فضاءٍ إلكتروني لا حدود له، بينما يضيع الحنين في صمت الأجهزة.
لقد قرّبتنا التكنولوجيا من البعيد، لكنها — بالمفارقة — أبعدتنا عمّن يشاركوننا تفاصيل اليوم. أصبح الغريب أقرب من الأخ، وأصبح من في نيكاراغوا أكثر حضوراً من الجالس بجانبنا.
ومع كل هذا التقدّم المذهل، يظل السؤال معلّقاً في فضاءٍ أزرقٍ لا نهاية له:
هل كان هذا التطوّر نعمةً حقاً؟ أم أنّه قيدٌ جديدٌ بأناقةٍ رقمية؟
وهل يمكن أن نعيد للبيوت دفءَ الحكايات القديمة، أم أنّها ذابت إلى الأبد تحت وهج الشاشات؟