تراجع البرامج المعرفية في عصر الترفيه الرقمي قراءة في واقع المحتوى الإعلامي العربي

 

بقلم: محمد النجار

شكّلت البرامج الثقافية والمعرفية لعقود طويلة إحدى ركائز المشهد الإعلامي العربي؛ كانت الشاشة آنذاك مساحةً للتعلّم بقدر ما هي فضاء للترفيه. برزت أسماء مثل عمر الخطيب ورافع شاهين وشريف العلمي لتقدّم نموذجاً تلفزيونياً يمزج بين المتعة والعمق، وبين السؤال الخفيف والفكرة الثقيلة.

زمن الشاشة التي تعلّم

في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، احتلت البرامج الثقافية موقعاً بارزاً في التلفزيون الأردني والعربي. برنامج "كنز المعلومات" لعمر الخطيب لم يكن مجرد مسابقة تلفزيونية، بل فضاءً معرفياً حقيقياً يقدّم المعلومة بقالب مشوّق ويثير الفضول لدى المشاهد. حتى عبارته الشهيرة: "يا سلام عليك، ولك جائزة السؤال" بقيت عالقة في الذاكرة بوصفها رمزاً لمرحٍ نظيف يرتبط بالمعرفة لا بالابتذال.

وعلى النهج ذاته جاء برنامج "فكر واربح" لرافع شاهين، حيث تحوّل موعد بثّه إلى طقس عائلي يجمع أفراد الأسرة حول شاشة واحدة. كان التحدي المعرفي جزءاً من الجو العام للمنازل، لا نشاطاً نخبوياً معزولاً.

أما شريف العلمي، فكان أحد أبرز صناع البرامج المعرفية عبر أعمال مثل: "سين جيم"، "كيف وأخواتها"، و**"مختصر مفيد"**؛ وهي برامج شكّلت معاً ما يشبه "موسوعة تلفزيونية" متنقلة، قدّمت رصيداً معرفياً في مجالات مختلفة بلغة سلسة وأسلوب مبسط من دون السقوط في التسطيح.

من الشاشة المعلِّمة إلى المنصات السريعة

اليوم، تغيّر المشهد جذرياً مع صعود منصات التواصل الاجتماعي وتحولها إلى المصدر الرئيس للمحتوى لدى شرائح واسعة، خصوصاً بين الشباب. هذا التحول لم يقف عند حد تغيير الوسيط، بل مسّ طبيعة المحتوى نفسه.

تراجع حضور البرامج المعرفية أمام موجة من المحتوى السريع الذي يطارد "الترند" ويقيس النجاح بعدد المشاهدات لا بقيمة الفكرة. داخل هذا المناخ برز ما يُعرف بـ "الذباب الإلكتروني"؛ وهو توصيف لنمط من الحسابات وصنّاع المحتوى الذين يقدّمون مواد سطحية تتركز على تفاصيل حياتية تافهة، واستعراضات فارغة، وألفاظ نابية تحت لافتة "العفوية" و"التلقائية".

هذا لا يجعل المنصات الرقمية شراً مطلقاً، لكنها بلا شك فتحت الباب أمام ثقافة استهلاك سريع للمحتوى على حساب التراكم المعرفي، وجعلت معيار النجاح ينزاح من جودة الرسالة إلى سرعة الانتشار.

بين الحنين والاحتياج المعرفي

قد يبدو التوق لعصر البرامج الثقافية مجرد حنين إلى الماضي، لكنه يتجاوز ذلك إلى تعبير عن حاجة مجتمعية حقيقية. فمجتمع تتقلّص فيه مساحة المعرفة لصالح الترفيه الفارغ، يجد نفسه أمام أجيال أقل صبراً على القراءة، وأضعف ميلاً للحوار العميق، وأكثر قابلية للتأثر بالخطاب السريع والمختزل.

لا يعني هذا أن العودة إلى قوالب الماضي هي الحل؛ العالم تغيّر، والأدوات تغيّرت، وسلوك الجمهور تغيّر. لكن السؤال الأهم اليوم هو: كيف يمكن استعادة روح البرامج المعرفية في زمن المنصات القصيرة؟

نحو صيغة جديدة للمعرفة في العصر الرقمي

المطلوب ليس استنساخ برامج الأمس، بل إعادة إنتاج الفكرة المعرفية نفسها بأدوات اليوم. من بين الصيغ الممكنة:

برامج معرفية قصيرة للمنصات الرقمية: محتوى مرئي يقدّم "وجبة معرفية خفيفة لكن عميقة"، يراعي سرعة الإيقاع من دون أن يضحّي بجوهر الفكرة.

مسابقات معلوماتية تفاعلية عبر التطبيقات: تستعيد روح "كنز المعلومات" و"فكر واربح" بشكل يتيح للجمهور المشاركة الفورية والتفاعل المباشر.

محتوى يعتمد على السرد القصصي (Storytelling): تقديم التاريخ والعلوم والقضايا الفكرية من خلال قصص وحكايات، تجعل المعرفة قريبة من المتلقي لا بعيدة عنه.


بهذا يمكن الوصول إلى توليفة متوازنة بين الأصالة والمعاصرة: الاستفادة من سرعة المنصات الرقمية وانتشارها، مع الحفاظ على الحد الأدنى من المعايير المعرفية التي صنعت قيمة البرامج الثقافية القديمة.

هوّة معرفية تحتاج إلى ردم

تراجع البرامج المعرفية في المشهد الإعلامي العربي ليس مجرد تغيير في نوعية البرامج، بل مؤشر على تحوّل أوسع في منظومة القيم والاهتمامات. بين شاشة الأمس التي كانت تعلّم وتثقّف، وشاشة اليوم التي تميل في كثير من الأحيان إلى الترفيه العابر، تتشكّل هوّة معرفية حقيقية.

ردم هذه الهوّة يتطلّب وعياً من صانع المحتوى والجمهور معاً:
إعادة الاعتبار للمحتوى المعرفي ليست ترفاً ثقافياً، بل شرطاً لبناء وعي عام قادر على فهم العالم، ومساءلة الأفكار، ومقاومة السطحية. فالإعلام، في نهاية المطاف، ليس مرآة تعكس واقعنا فحسب، بل أداة للمساهمة في تشكيله وتوجيهه نحو أفق أكثر وعياً واتزاناً.