الشتاء العربي الجديد... بين دفء الذكريات وصقيع الواقع

 

بقلم: محمد النجار

مع أولى نسمات الشتاء، تتسلل الذكريات من بين دفاتر العمر، وتعود بي إلى بيتنا الصغير الذي كان يضج بالدفء والحياة. لم يكن الشتاء عندنا مجرد فصلٍ بارد، بل مناسبة للتماسك العائلي، طقساً مقدساً يجتمع فيه الجميع حول المدفأة الحمراء(الفوجيكا)، وكأنها القلب الذي يوزّع الحياة في أركان البيت.

كنت أستيقظ على صوت أمي وهي توقظني للمدرسة برفق، فأحاول التظاهر بالنوم لأغتنم دقائق إضافية من الدفء. وما إن يعلو صوت فيروز عبر المذياع حتى أعلم أن معركة النهوض قد حُسمت. كانت فيروز رفيقة الصباح العربي؛ تشدو للحب، للحنين، وللبيت البسيط الذي تتقاسم فيه العائلة اللقمة والضحكة والدفء.

وحين أعود من المدرسة، كنت أسبق الريح نحو بيتنا، أعانق المدفأة كما يعانق العاشق محبوبته بعد فراقٍ طويل. هناك كانت أمي تعدّ لنا الحلوى، وكان أبي يروي حكايات كفاحه وتجارب عمره، تُشعل فينا شرارة الأمل. كانت رائحة الكستناء، وضحكات إخوتي، وأحاديث أبي، تشكّل لوحةً شتوية لا يبهت ألوانها الزمن.

تلك الأيام لم تكن لنا وحدنا، بل كانت تتكرر في كل بيتٍ عربي. كان الشتاء يعني اجتماع العائلة، صوت المطر، دفء المدافئ، وطمأنينة الحياة. كان الوطن، من المحيط إلى الخليج، يتقاسم الإحساس نفسه بالحب والانتماء.

لكن يا أبي، يا من رحلت عن دنياك، عاد الشتاء من جديد، إلا أنه لم يعد كما عهدناه. صار الشتاء العربي وجهاً آخر للبرد الإنساني الذي يلفّ أوطاننا.

لقد تحوّل الشتاء من موسمٍ للحياة إلى مرآةٍ للخذلان العربي. صرنا نرى المدافئ مطفأة في البيوت المهدّمة، والأطفال يواجهون المطر بملابس ممزقة ، ومع كل هبة رياح تهدم خيمة في غزة أو السودان ومعها تهدم فرحتنا بهذا الشتاء الذي أصبحنا نراه دموع لا حبات مطر.

الشتاء الجديد قاسٍ كمنفى طويل، موحش كبيتٍ مهجور يسكنه الصمت والظلال. لم يعد المطر يغسل الهمّ، بل صار يفضح تشققات الخراب.