إخوة التراب وحكايا الزرقاء: قراءة في عالم رواية «فاطمة»
محمد النجار
رواية «فاطمة» ليست مجرد حكاية عن امرأة أو مدينة؛ بل هي نافذة واسعة تُطلّ منها ذاكرة الزرقاء على عقود طويلة، تمتد من منتصف الأربعينيات حتى ثمانينيات القرن الماضي. عبر صفحاتها، يجد القارئ نفسه في رحلة زمنية تعيد تشكيل ملامح مدينة كانت تكبر بهدوء، على إيقاع الفقر والكفاح، والكرامة والعناد، والحب الصامت الذي لا يحتاج إلى ضجيج كي يكون حقيقياً.
تقدّم الرواية صورة بانورامية لمدينة الزرقاء في زمن كانت فيه الحياة بسيطة في مظهرها، شاقة في تفاصيلها، لكن ممتلئة بالمعنى؛ فلا شيء كان يُنال بسهولة، حتى «جهاز العروس» كان في حدّ ذاته حكاية طويلة تستحق رواية خاصة. في ذلك الزمن.
في عالم «فاطمة»، تهتز سنابل القمح في حقول الزرقاء كأنها ترفع رؤوسها فخراً إلى السماء، شاهدة على تعب الفلاحين وعرقهم، وعلى زمنٍ كانت فيه الأرض امتداداً طبيعياً للروح. أما صوت البارود، فلم يكن صدى لعبث أو استعراض للقوة، بل كان نداءً للدفاع عن القدس الجريحة، وعن فلسطين التي سالت لأجلها دماء الرجال في معارك باب الواد واللطرون. تلك الدماء لم تُروِ التراب وحسب، بل كتبت سطوراً خالدة عن شهامة أبناء العشائر في شرق الأردن، الذين رأوا في فلسطين امتداداً لبيوتهم وقلوبهم، لا مجرّد جغرافيا تفصلها حدود.
تُظهر الرواية كيف أن أبناء الزرقاء وأبناء العشائر في شرق الأردن كانوا حقاً «إخوة التراب»؛ لا تفرّقهم خطوط مرسومة على الورق، لأن ما يجمعهم أعمق من السياسة وأبقى من المؤقت: تاريخ مشترك، وقضية واحدة، ووجدان عربي يرى في القدس جرحاً شخصياً وفي فلسطين مسؤولية أخلاقية وأخوية. وحين تشتد المحنة، تذوب الحدود المصطنعة أمام حرارة مشاعر الفرسان، فتعود الأرض واحدة، كما أرادتها قلوبهم لا كما قسمتها معاهدات وغرف مغلقة.
في النهاية، تُقدّم رواية «فاطمة» أكثر من حكاية شخصية أو سرد اجتماعي؛ إنها وثيقة وجدانية ترسم تاريخ الزرقاء والشرق الأردني من خلال إنسانها العادي: الأم، الفلاح، المجاهد، والعاشق الخجول الذي يخفي حُبّه خلف نظرة عابرة أو كلمة مقتضبة. هي عمل يذكّر القارئ بأن المدن ليست حجارة وأسفلتاً فحسب، بل ذاكرة ودموع وعرق وطلقات بارود أُطلقت ذات يوم دفاعاً عن حق وعدالة وكرامة. ومن يقرأ «فاطمة» لا يتعرّف فقط إلى ماضي الزرقاء، بل يلامس نبض حياة جيلٍ كامل عاش بضنك ، لكنه ظلّ متمسكاً بحلمه، وبشعور عميق أن ما بين عمّان والزرقاء والقدس طريقاً واحداً، وإن طال عليه الغياب.