وصفي… الرجل الذي وُلِدته أرض الأردن كلّها
بقلم: عوني الرجوب – باحث وكاتب سياسي
لا يستحضر الأردنيون اسم وصفي التل كما يستحضرون مجرد رجل رحل، بل كما تُستعاد صورة وطن كان يمشي على قدمين.
فوصفي لم يكن حدثًا عابرًا في تاريخ الدولة، ولم يكن مجرد رئيس حكومة أو زعيم صنعته الظروف، بل كان نموذجًا أخلاقيًا وإنسانيًا ووطنياً صار معيارًا يُقاس عليه الرجال.
لقد أوجع وصفي قلوب الأردنيين وجعًا لا يشفى، وجعل هذا الوطن يقف يتيمًا من غير أن ينحني.
علّم الناس أن الكبرياء ليس كلمة، وأن الرجولة ليست لقبًا، وأن الوطنية تُصنع بالمواقف لا بالشعارات.
⸻
ابن الأردن كلّها
لم تلده مدينة واحدة، ولم تحتضنه بيئة واحدة. وصفي وُلِدته الأردن كلها، كما تولد السيوف من النار.
هو ابن الصريح التي احتضنته، وابن سهول حوران التي شدّت عوده، وابن الريف النقي، وابن البادية التي علمته الكبرياء.
هو ابن الكرك حين تغضب، وابن عجلون حين تعلو، وابن الطفيلة حين تصبر، وابن المفرق حين تعتصم، وابن مادبا حين تفخر، وابن جرش حين تتصلّب، وابن السلط حين تعتزّ.
هو ابن العقبة حين يثور البحر، وابن معان حين ينتفض الرمل وتشتد الرياح ، وابن الزرقاء حين قوة وعزيمة،
وابن عمان عاصمة ملوك بني هاشم الغر الميامين — فارس الكمالية — التي حرث أرضها، وغرس أشجارها، ورواها بعرق جبينه وبنى منها مجدًا للناس لا للمناصب.
وصفي يعرف كل زاوية في الأردن: شوارعها، مخيماتها، أزقتها، القرى والمدن، من العدنانية والثنية إلى القادسية والعين البيضاء، ومن الحسينية ووادي النقب إلى العيزريه والسلالم ووادي شعيب، ومن الجيزه وام قصير إلى طاب كراع ومرج الفرس والبقعه، ومن كفر جاير وكفر رحتا إلى الدجنيه وحيان المشرف… ووصلًا إلى قرى عجلون وكل وادي وبريه أردنية.
وصفي لم يكن ابن مكان، بل كان ابن الوطن حين كان الوطن رجالًا.
الفلاح البدوي… مزيج الأرض والسيف
كان الفلاح الذي يعرف التراب، ويشمّ رائحة الحنطة قبل حصادها، وكان البدوي الذي يعرف اتجاه الريح ويقف حيث يجب أن يقف مهما اشتدت العواصف.
لم يعش بين البادية والحضر، بل كان الجسر بينهما، يجمع بساطة القرى وصلابة الصحراء، ويجسد مزيج الخيل حين تعدو والزيتون حين يقف شامخًا.
عشق الأرياف، وتنفس البداوة، وسكنت حضوره روح المدن، كما سكنت روحه صدور الخيل في الصحراء.
لماذا لا ينسى الأردنيون وصفي؟
لأن الرجال لا تُقاس بأعمارهم، بل بأثرهم.
لأن آباؤنا وأمهاتنا أخذوا حبّهم معهم، أما وصفي فترك حبَّه للأردن كله.
لأنه مات واقفًا شامخ القامة، فوقف معه الوطن كله، وبقي واقفًا بعده.
وصفي ليس ذكرى سياسية، بل عقدة وفاء ومدرسة في النزاهة والشرف والأمانة، رجل عاش للوطن لا للكرسي، وخدم الناس لا المنصب.
فراغه… صمت يعلّم
غيابه كان فجوة لا تُملأ، لكنها أنشأت قيمة جديدة لمعنى الرجولة. لم يكن فراغًا سياسيًا فحسب، بل أخلاقيًا أيضًا، في زمن يحتاج فيه الوطن إلى أمثاله أكثر من أي وقت مضى.
وصفي… الرجل الذي اغتيل لأنهم خافوا منه
خافوا من رجولته ومواقفه المتصلبة دفاعًا عن الأردن وفلسطين، ومن يده النظيفة، وصوته الجريء، وجسارته التي تتعدى الحدود، وصراحته التي كانت تفضح الفاسدين وتكشف مؤامرات الأعداء والمتأمرين.
لم يكن يناسبهم، فاغتالوه، لكنهم لم ينتبهوا أنهم حين أطلقوا النار عليه، جعلوه أكبر وأقوى وهو ميّت من كل الذين حاولوا قتله وهو حي.
كان ضابطًا يدافع عن فلسطين، ومن أشد المعادين لإسرائيل، ومن أقوى المناضلين في الأربعينيات والخمسينيات، واستشهد في القاهرة في السبعينيات من زمرة العملاء والخونة، ومات شهيدًا للوطن والأمة.
أيقونة الأردنيين بلا منازع
يشبه الأردنيون وصفي، ويشبههم في صبرهم وصلابتهم وعنادهم الشريف.
وصفي هو الرجل الذي اتفق عليه الأردنيون كما لم يتفقوا على غيره، جمع الشمال والجنوب، والبادية والريف، والمدينة والغور على محبة الوطن، وجعل من اسمه رمزًا للدولة التي يريدها الناس: دولة صدق وعدل واحترام للإنسان.
وصفي أحبه جلالة الملك الحسين بن طلال رحمه الله، ومنحه الحرية وصنع القرار، فأخلص بحبه لوطنه وللملك، وأحسن صنع القرار، وخدم الأردنيين ودافع عن قضايا الأمة كلها دون استثناء، ومات شهيدًا دفاعًا عن الأردن وفلسطين.
وصفي الذي لا يغيب
يا وصفي…
يا ابن الأرض كلّها، الشمال والجنوب، البادية والغور، والتراب الذي لا يخون…
رحمك الله يا أبي مصطفى.
بقيت حيًا لأنك كنت وطنًا،
وستبقى لأنك صرت أيقونة الأردنيين جيلاً بعد جيل بلا منازع.