هوس السوشيال ميديا: حين يتحول العالم الافتراضي إلى سجن ذهني
سوزان أبو بكر
لو نظرت اليوم إلى حياة معظم الشباب، ستكتشف واقعاً جديداً يختلف تماماً عما عرفناه في أجيال سابقة، واقع يبدأ مع صوت أول إشعار على الهاتف وينتهي مع آخر تحديث لحساب على إنستغرام أو تيك توك، أصبحنا نرى شباباً يركضون بلا هوادة خلف كل جديد في عالم الترندات، يقضون ساعات طويلة يلاحقون تحديات لا معنى لها، يرقصون أمام الكاميرا ويقلدون مشاهير لا يعرفون عنهم سوى عدد المتابعين، أصبح الاهتمام بالدين عادة موسمية أو صورة على ستوري الجمعة، وأصبح التعليم مجرد مناسبة لالتقاط صورة مع الشهادة أو كتاب مفتوح أمام الكاميرا، ليس من أجل العلم بل من أجل جمهورهم الافتراضي.
تذهب إلى مقهى أو حتى إلى جلسة عائلية، فتجد الجميع ممسكين بهواتفهم، يضحكون على فيديوهات سطحية أو يتبادلون شائعات جديدة عن حياة شخص لم يسمعوا به من قبل، أصبح الحديث عن النجاح مرتبطاً بعدد اللايكات، بينما الحديث عن الطموح تحول إلى سباق نحو الشهرة حتى لو كان ذلك على حساب الأخلاق أو الوقت أو حتى الكرامة، قلما تجد شاباً يتحدث عن مشروع علمي أو هدف دراسي، بل إن الأغلب أصبح يطمح أن يكون "مؤثراً" أو "مشهور تيك توك" أو حتى صاحب قناة يوتيوب بلا محتوى حقيقي.
في المدارس والجامعات، باتت الموضة الجديدة هي تصوير لحظات المذاكرة أو التظاهر بالاجتهاد أمام الكاميرا، بينما الكتب الحقيقية تُترك جانباً ما إن تنتهي جلسة التصوير، صارت كلمات مثل “التنمية الذاتية” و“القراءة” مجرد شعارات تُردد في البايو ولا تجد لها مكاناً في اليوم الحقيقي، كثير من الطلاب ينتظرون نهاية اليوم ليعودوا إلى هواتفهم ويغرقوا في دوامة من التحديات التي لا تزيدهم إلا ضياعاً، أصبح حفظ أغنية ترند أو حركة راقصة أسهل بكثير من حفظ آية من القرآن أو معلومة علمية، حتى الأحاديث العائلية لم تسلم من التأثير، فكل نقاش يتحول بسرعة إلى مقارنة بأحد مشاهير التواصل الاجتماعي أو قصة عن صديق أصبح مشهوراً بفضل فيديو واحد سخيف.
حتى القيم الدينية لم تسلم من التشويه، فصارت الصلاة تُصوّر أحياناً كدليل على “الالتزام” فقط ليظهر الشخص بصورة أفضل على السوشيال ميديا، أما حقيقة الإيمان والالتزام، فقد أصبحت شأناً شخصياً مخفياً خلف ستار العادات، الشباب اليوم يفرون من أي نقاش جدي حول الأخلاق أو المسؤولية، ويهربون إلى عالم افتراضي يمنحهم كل شيء بسرعة، متعة فورية، شهرة لحظية، إعجاب مؤقت، ثم لا شيء، فراغ كبير يزداد مع كل يوم.
ولعل الأكثر ألماً أن الكثيرين بدأوا يصدقون أن هذا هو النجاح، أن الظهور على الشاشة وتحقيق مشاهدات أعلى من الآخرين هو الهدف الأعظم، صار التقليد الأعمى هو السمة الغالبة، وتلاشت روح التميز والاجتهاد، وحتى من يحاول أن يتمسك بقيم الدين أو يسعى للعلم الحقيقي يواجه أحياناً بالسخرية أو الاتهام بالتخلف، في عالم صار فيه كل شيء قابلاً للتضحية في سبيل لايك جديد أو متابع إضافي.
هكذا ضاع جيل في زحمة الترندات، جيل لم يعرف بعد كيف يستثمر وقته فيما ينفعه، ولم يدرك أن الشهرة الفارغة لا تملأ الفراغ الحقيقي في الروح، وأن الطريق نحو المستقبل يبدأ من فهم أعمق للعلم والإيمان، لا من سباق الجنون نحو كل جديد عابر.