سوريا .. الاضطراب المستقر
وسام سعادة
بعد عام على سقوط نظام آل الأسد في سوريا يظهر كم أن النقاش حول مسألتها الوطنية في العقود الماضية كان قاصرا عن الجمع بين اعتبارين، واحد يتصل بالديكتاتورية وشروط تقويضها وكيفية أن لا يتم التخلص منها للوقوع في دكتاتورية أخرى، والثاني يتصل بالتنوع والتعدد السوريين وكيفية العدول عن المكابرة على الإشكاليات المتعلقة بالطائفية والاختلافات الإثنية كما تلك المناطقية. لأجل هذا كانت المشكلة ولم تزل في سوريا متصلة بكيفية إدارة تعدد من بعد سقوط نظام البعث العائلي المطيف. ولطالما اختلط الأمر على كثيرين، من باب أن هذا التطييف يحتاج إلى شيء من التأني في وصفه وتقدير آلياته. فلم يكن نظام البعث الأسدي نظاما تسود فيه الأقليات على الأكثرية العربية السنية، لكنه مع ذلك كان نظاما يحمل سمات أقلوية «ما» لا مناص من الإقرار بها والبحث عن أسلوب متزن وحذر في وصفها وتحليلها والالتفات إلى التباساتها. لم يكن النظام «علويا»، لكنه كان نظاما تقوم حلقته الضيقة الأمنية الأساسية على اجتماع ضباط علويين حول شخص حافظ الأسد ثم أولاده، ويشعر فيها قسم من العلويين غير قليل بأن مصيرهم معلق بهذا النظام، فإن سقط تعرضوا للغضب المتراكم جراء تحسس العلوية المتخيلة لهذا النظام، والمتخيل يساهم في إعادة تركيب الواقع. إنما بالنتيجة لم يظهر أن للنظام من «عصبية علوية» تستطيع أن تعيد تموضعه كـ «ميني نظام» في منطقة من سوريا، فيها الكثافة العلوية، من أحياء العلويين في حمص وحتى الساحل. بل ظهر بالأحرى أن الالتباس «العلوي» لنظام آل الأسد المدعوم بالميليشيات الموالية لإيران حال دون تطور عصبية علوية دفاعية عن أبناء الطائفة في حال سقط هذا النظام. ترك الأمر للفراغ، وتسارعت الحوادث في مرحلة ما بعد سقوط النظام إلى حيث ظهور مشكلة تعطل آليات إدارة التنوع «بعد البعث»، أولا تجاه العلويين، ثم بعد أكثر تجاه الدروز، بما أطلق العنان سريعا للنزعات الطاردة، بل الانفصالية.
يحصل كل ذلك في ظل مفارقة كبرى. من ناحية رعاية أمريكية وعربية للتحول الذي يقوده نظام الحكم الجديد في دمشق منذ عام، المنبثق من الإسلاموية الراديكالية والذي يحاول إعادة تأطيرها في إطار الفصل بين نطاق محلي لـ»تحكيم الشريعة» وبين الالتزام بالهرمية الدولية التي تقودها أمريكا والتموقع ضمن النظام الإقليمي العربي. ومن ناحية أخرى إيغال إسرائيلي في التمدد باتجاه جبل الشيخ وريف دمشق بما يزيد الضغط على دمشق، التي لا تزال تعول على واشنطن للتخفيف من هذا الضغط، علما انه ضغط يرتبط بشكل عضوي بالمسار الذي اتخذته المسألة الدرزية في الجنوب السوري.
يحصل كل هذا من دون أي مبادرة لإعادة تفعيل الحوار الانتقالي. إذا لا يبدو أن الدول العربية كما أمريكا مهتمة بإعادة الحث عليه. ولا يبدو أن أحدا من الأطراف السورية مهتم بإثارته أو هي أطراف لا تجد أن هناك شروطا واقعية لقيامه. لكن عدم قيام هذا الحوار الانتقالي يجعل النزعات الطاردة تزداد تورما واحتقانا، في مقابل استمرار المكابرة عليها. يبقى أن هناك خطابا عن الوحدة الوطنية كسد في سوريا، يحتاج أقله لإعادة تأمين عناصر الحيوية والصدقية. فهل انه ليست هناك قوة اجتماعية قادرة على النهوض بتصور برنامجي لإعادة توحيد البلد بشكل يراعي التعددية والتنوع على اختلاف مراتبهم؟ إلى حد كبير هذا هو الوضع. ليس هناك مثل هذه القوة وليس هناك في المقابل لا أساس مجتمعي واقتصادي ولا قبول عربي ودولي لتكريس عملية تشطير سوريا إلى كيانات صغيرة نهائية. وضع كهذا يطرح من جهة خطورة المسألة الكيانية، ومن جهة ثانية ضبابية ان لم يكن عدمية أي تصور يحسب ان هناك خريطة بديلة قابلة للاستقرار.
تبدو سوريا إذاك معلقة في البين بين، لا هي دولة شريعة اليوم ولا هي غير ذلك، لا هي دولة قائمة على سردية التوحيد الوطني ولا هي غير ذلك، لا هي قادرة على الذهاب إلى الفدرالية بالتراضي، ولا إلى الحوار الوطني حول اللامركزية. هذا في حين يحاذر ان يأتي مسار إعادة الإعمار محدودا، مشوها، يتساكن مع أعمال هدم في أماكن أخرى.
يترافق ذلك مع حالة تلف سياسي واسعة النطاق، كل ما يتصل بخطاب الثورة السورية. فهذا الخطاب مال في معظم أشكاله إلى اختزال المسألة الطائفية أما في الطابع الطائفي الأقلوي للنظام، وأما إلى اعتبار ان الطائفية هي سياسة فرق تسد ليس إلا، والرد عليها يكون بامتداح وحدة الشعب والوطن ليس إلا. هذا لا ينفع، لا في سوريا ولا في المشرق العربي ككل. لكن الانتقال من لا مركزية الأمر الواقع، المتساكنة مع محاولات تأطير الجهاديين لتحويلهم إلى «جهاديين في بلد واحد» منتظمين بحسب الهرمية الدولية الأمريكية المركز، وضمن النظام العربي الرسمي، إلى لا مركزية ممأسسة، مدسترة، لا يظهر كيف له ان يبدأ السعي من أجله. لأنه لا يمكن ان تأتي رياحه على سوريا وحدها، انما يتصل أيضا بالوضع في لبنان كما في العراق. التشاؤم إذاك يفرض نفسه. وهو يدعو إلى تفكر بما يتجاوز الحدود السياسية للمشكلة، إلى الاعتراف بأن هناك عمقا ثقافيا لمشكلة مجتمعات ما عادت تصبر على الديكتاتورية لكنها لا تريد الديمقراطية أيضا في نهاية المطاف. ليس فقط ليست مستعدة لها، بل عندها موانع ذهنية ومعرفية جدية بازاء الفكرة الديمقراطية من حيث هي انبثاق السلطة من تحت إلى فوق.
بعد عام على سقوط آل الأسد يبدو الاضطراب السوري مستقرا مع ذلك. بمعنى تساكن الغلبة المتمحورة حول هيئة تحرير الشام من ناحية والنزعات الطاردة عند «الأقليات» من ناحية أخرى. تساكن خفتت فاتورته الدموية مع الوقت، لكنه أبعد ما يكون عن فتح مجال حتى الآن لأي حوار مسند عربيا ودوليا.