حين يصبح الحق “ترفًا”… وتتحوّل الوظيفة إلى حلم مستحيل

 

 

بقلم: عوني الرجوب – كاتب ومحلل سياسي

لم يعد المواطن الأردني بحاجة إلى تقارير أو دراسات ليعرف أين يقف.

فالوظيفة التي كان يفترض أن تكون حقًا عامًا أصبحت تُمنَح كأنها هبة خاصة، تُوزّع خلف الأبواب الموصدة، وتُمرَّر في الأروقة الضيقة، وتنتقل من يد إلى يد كما ينتقل الإرث العائلي.

آلاف الشباب يصطفّون أمام مؤسسات الدولة، يحملون شهاداتهم، خبراتهم، أعمارهم التي مضت وهم ينتظرون، بينما تُقدَّم الوظيفة ذاتها على طبقٍ من نفوذ لمن يملك “اسمًا”، أو “قربًا”، أو “جاهًا”… كأن الوظيفة ملك خاص لا وظيفة عامة.

المؤلم ليس أن المواطن يبحث عن “واسطة”، بل أن الدولة دفعت المواطن إليها دفعًا، حين أقنعته التجربة اليومية أنّ القانون أعزل، وأن النظام أضعف من أن يحمي حقه، وأن الباب الذي لا يُفتح بالكفاءة… يُفتح بكلمة من صاحب مقام أعلى من القانون ذاته.

والمصيبة الأعمق أنّ هذه الواسطة ليست بابًا للفقراء ولا تكريمًا للمستحقين، بل بابًا مغلقًا إلا على طبقة محددة: قريب مسؤول، ابن متنفذ، وجه معروف، أو شخص يعيش في مؤسسة لا يدخلها أبناء الشعب مهما اجتهدوا.

هكذا تتحول الواسطة إلى سلاح طبقي:

• ترفع من لم يتعب…

• وتُسقط من تعب…

• وتصنع معادلة جائرة تقول للشباب بوضوح مهين: “مستقبلك ليس بيدك… بل بيد من يملكك.”

كيف يفهم المهندس المتفوق، أو الطبيب الذي قضى سنوات عمره في الدراسة، أنه بلا فرصة، بينما يتقدّم للمواقع الحساسة من يحمل شهادة في اختصاص لا علاقة له بالموقع، لمجرد أنّ ظهره قوي؟

أي رسالة نرسلها لأجيال قادمة؟

وأي بلد يُقنع أبناءه بالاجتهاد، بينما المناصب توزّع بالمحاباة؟

كيف نطلب الثقة من شباب يرون أن مستقبلهم يُعطى لمن لم يبذل عُشر ما بذلوه؟

إن الواسطة ليست “سلوكًا خاطئًا”، إنما مرض سياسي واجتماعي عميق، يهدّد الاستقرار، ويُكدّس الاحتقان، ويُقوّض الإيمان بالدولة، ويجعل المواطن يشعر أن العدالة رفاهية لا حق.

فالواسطة ينبغي أن تكون وسيلة لإنقاذ المستحقين الذين لا يستطيعون الحصول على حقوقهم بسبب ضعف سندهم، لا أداة لتمكين الأقوياء.

والدولة التي تترك شبابها واقفين أمام باب مغلق، تفتح، دون أن تشعر، ألف باب لليأس، للغضب، للهجرة، وللفوضى.

لقد آن الأوان لقرار شجاع، واضح، وغير قابل للتأويل:

العمر والكفاءة أولًا، والوطن فوق الواسطة، والقانون فوق الأسماء.

فالدول لا تُبنى بالهواتف…

ولا تُحترم بالمجاملات…

ولا تنهض حين تصبح المناصب غنائم بدل أن تكون مسؤوليات.

 

لقد آن الأوان لأن يدرك كل مسؤول، وكل صاحب قرار، أنّ مستقبل الوطن لا يُبنى على المجاملات ولا على النفوذ، بل على العدالة، والكفاءة، والفرص المتاحة لكل من يستحق.

إن شبابنا ليسوا عبيدًا للواسطة، ولا أدواتً لتثبيت امتيازات طبقية، بل هم روح الوطن، وحاملو مشاعره، وبناة مستقبله.

إذا استمر الصمت، واستمرت هذه الممارسات، فإن الوطن سيخسر أعظم ثرواته: طموح شبابه، وإبداعهم، وإيمانهم بأن الوطن يستحق الوفاء.

فلنرفع الكفاءة فوق الاسم، والحق فوق المال، والعطاء فوق المحسوبية.

فالعدالة ليست خيارًا… إنها أساس الدولة، وسر بقائها، وحق كل مواطن.

ومن يظن أنّ الوظيفة ملك خاص، فليعلم أن التاريخ لا يرحم، وأن الشعب لن ينسى