«تهافت» عابر للأطلسي

عريب الرنتاوي  - ترامب «أفضل صديق لإسرائيل سكن البيت الأبيض» ... هكذا قال الرجل في معرض استجدائه لأصوات «اللوبي اليهودي» والكنيسة الإنجيلية المتصهينة ... الرئيس الأمريكي مُحقٌّ فيما ذهب إليه ... ومن أجل أن يبرهن صدقية أقواله بأفعاله، استعرض أمام حشد من الناخبين والممولين اليهود، قائمة «الهدايا» التي منحها لإسرائيل، من نقل السفارة للقدس والاعتراف بالمدينة عاصمة لإسرائيل، مروراً بالجولان، عطفاً على إضفاء «الشرعية» على المستوطنات، وقبلها وبعدها، هجوم إدارته «المكارثي» ضد «الأونرواً» وقضية اللاجئين الفلسطينيين وحقوقهم في العودة والتعويض... وقرار إدارته بغلق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، ووقف كافة المساعدات للسلطة الفلسطينية.
لكن الرجل لم يكتف بهذا «التهافت»، فهو وأركان إدارته، وفي معرض الانحياز لليمين الإسرائيلي الأكثر تطرفاً، يسعيان من أجل تسريع «مسارات التطبيع العربي – الإسرائيلي» ... في هذا السياق، تأتي مبادرة بومبيو بحث الدول العربية على توقيع «معاهدات عدم اعتداء» مع إسرائيل ... وهي أقل مرتبة من «معاهدات السلام» بيد أنها أعلى بدرجات من الوضعية الراهنة ... كما أن ترامب لم يتوان عن شن حملة شعواء ضد حملات مقاطعة إسرائيل، ووضع حركة المقاطعة «BDS»، في مصاف الحركات المعادية للسامية المحظورة، وقد يصل به الأمر حد إدراجها في القائمة السوداء للمنظمات الإرهابية.
بعيداً عن الأسئلة «الأخلاقية» التي تثيرها مواقف الرئيس ترامب، لجهة انعدام حساسيته و»مسؤوليته» تجاه مصائر وحقوق شعب بأكمله، يقارب تعداده تعداد يهود العالم بمجملهم ... تفوح الانتهازية والحسابات الانتخابية الرخيصة، من ثنايا أقواله وأفعاله ... المهم أن يحافظ الرجل على زخم حملته الانتخابية، حتى وإن أفضى ذلك إلى إلحاق أفدح الضرر بالشعب الفلسطيني وحقوقه، وإلى تهديد مسارات السلام والاستقرار في المنطقة، إن لم يكن على المدى المباشر والفوري، فعلى المديين المتوسط والبعيد.

على الضفة الأخرى للمتوسط، كان البرلمان الفرنسي، وبدعم من إيمانويل ماكرون وحزبه، يشفُّ عن «تهافت» مماثل، ويصوت لصالح قرار يقيم تماثلا بين «العداء الجذري» للصهيونية ومعاداة السامية... نقد الإيديولوجيا الصهيونية بوصفها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري وفقاً للقرار الأممي المغدور 3374، أو انتقاد السياسات الإسرائيلية الاستعمارية الإحلالية، إنما يضع المنتقدين في دائرة الاستهداف والمساءلة القانونية ... أي ابتزاز هذا؟ ... وأين؟ ...في قلب عاصمة الأنوار ووطن «الحرية والإخاء والمساوة» الأول.
هي نجاحات تحققها إسرائيل، بفعل تغلغل أذرعتها الضاغطة في عواصم القرار الدولي .... وهي في المقابل، نجاحات تحققها حركة المقاطعة لكيان الاحتلال والاستيطان والعنصرية، والتي تجتذب إلى صفوفها وقواعدها، أعدادا وفئات متزايدة من الفاعلين الاقتصاديين والإعلاميين والمثقفين والأكاديميين في العالم، وبما يتهدد إسرائيل بنزع «شرعيتها» وتمزيق «القناع الأخلاقي» الذي طالما تدثرت به، وهي تمعن تشريداً وتشتيتاً للشعب الفلسطيني.
وهي الدلالة على بؤس الحال والمآل الذي انتهت إليه «المؤسسة الرسمية» الفلسطينية وكثير من «النظام الرسمي» العربي، ففي غيبة هؤلاء ومع تآكل أدوارهم، لم تعد حكومات عديدة في العالم، تخشى الذهاب إلى أبعد شوط في تأييدها لإسرائيل والصهيونية والتغطية على جرائمها الاستعمارية والعنصرية.
لطالما قرأت وسمعت عن أسطورة «العنقاء» الفلسطينية، التي اعتادت الطيران من تحت الرماد، و»تكبر أن تصادا» كما يقول الشاعر العربي، ولطالما تأثرت بقدرة الشعب الفلسطيني على «تنقيل» رايات كفاحه، من جزء إلى جزء آخر منه، إن تعطلت أدواره لأي سبب من الأسباب ... حركة المقاطعة اليوم، تقوم بـ «مشاغلة» الاحتلال والعنصرية، إلى أن يستيقظ الشعب الفلسطيني على بؤس حاله وأحواله، تحت سلطتين متنازعتين، ترزحان كلتاهما تحت نير احتلال غاشم.