قبل عام تقريبا، عجت وسائل التواصل الاجتماعي وجلسات المعلمات والمعلمين بمديح وزيرهم الذي أصبح رئيساً للوزراء، إذ بدؤوا في حينه يلمسون "إشارات الخير” من تحسين في شروط المعلمين في المدارس الخاصة وإجبارها على تحويل الرواتب للبنوك وغيرها. كان الرزاز قد غادر مكانه كوزير للتربية والتعليم قبل أقل من ثلاثة اشهر، واستلم رئيسا للوزراء، وكان المعلمون والطلبة وذويهم جلّ قاعدة الرجل الشعبية غير المألوفة بمجتمع تطغى عليه الصبغة العشائرية.
الدكتور عمر الرزاز وبأقل من عامين في منصب وزير التربية والتعليم استطاع كسب ثقة الجميع، وهذا بحد ذاته انجاز نادر خصوصا في وزارة التربية والتعليم المعروفة بصعوبة ادارتها وتعقّد اشكالاتها، وكان الدكتور الرزاز قد بنى جسورا هامة مع نقابة المعلمين الجسم النقابي الأكبر في الأردن (قوامه نحو 120 الف معلم ومعلمة).
استمر رئيس الوزراء يتعامل مع وزارة التربية والتعليم كابنه المدلل ومع الطلاب والمعلمين كأساس للأردن ويذكرهم في كل المناسبات طوال فترة رئاسته الممتدة اليوم لعام وبضع أسابيع، حتى شاهد الأردنيون والعالم مشاهد اعتصام الخميس، حين اغلق محيط رئاسة الوزراء امام المعلمين.
بالأمس بات المعلمون الذين كانوا مدللين انفسهم يتواجهون مع قوات الأمن محتجين على سياسات ذات رئيس الوزراء، الذي خرج من رحم وزارة التربية والتعليم والذي سهّلت له خطواته الإصلاحية في الوزارة محبّة الشارع والمعلمين في بداية وصوله للرئاسة.
أحد أهم المشاهد السريالية في اعتصام الخميس، بدا ذلك المقطع المصوّر لرجل أمن وهو يعلن بحضور محافظ عمان ان منطقة الدوار الرابع (منطقة دار رئاسة الوزراء) "غير مسموح بها الحق بحرية التعبير”، مثل هذا المشهد قد يظهر جانبا من العقلية الأمنية التي تدير المشهد اليوم، فالحريات اليوم يبدو ان هناك من يفصّل مقاسها وأماكنها وعلى الأغلب الدوار الرابع ليس المكان الوحيد الذي قررت الدولة منع حرية التعبير فيه.
عهد الرزاز في رئاسة الوزراء يبدو طويلا لمن ينظر الى تضاؤل القيمة الشرائية لراتبه، وعهد الرزاز يبدو أطول لمن يحسب الأيام كي تتحسن ظروفه المعيشية كما وعد الرئيس الذي كان الشارع يعرفه.
مشهد اعتصام المعلمين يوم الخميس بكل تفاصيله يؤكد ان الظروف المعيشية للأردنيين لم تتحسن، بل على العكس زادت سوءا، وتبدو الحكومة في المقابل تلفظ أنفاسها الأخيرة ويقفز من سفينتها من استطاع حتى من طاقمها، فتصريحات وزير التخطيط الجديد على الفريق الوزاري الدكتور محمد العسعس عن انه لا يعمل لصالح صندوق النقد الدولي وانه "يغضب عندما ينظر إلى الحكومة كعقبة أمام الاستثمار بينما كان الأولى ان تكون الحكومة الميسر للاستثمار”، وقبله وزيرة السياحة مجد شويكة الباحثة عن إرادة سياسية لتدير وزارتها وتسهل اعمال المستثمرين، مثالين على القفز من السفينة، والأخيرة تغرق.
سفينة الرزاز تبدو تغرق، ومن الواضح ان الرجل نفسه يعرف ذلك وهو يفسح المجال امام عقلية امنية متشددة كتلك التي يملكها وزير الداخلية سلامة حماد لإدارة المشهد واختلاق الازمات، والتي لم- وعلى الاغلب لن- تكون اخرها مشاهد اعتصام المعلمين (امس) الخميس.
العقلية الأمنية المتنامية ان هيمنت على ذهن رجل كالرزاز لاجهضت كل التنوير الذي رعاه هذا الرجل في شخصيته منذ نعومة اظفاره، والذي يتساءل الشارع بكل ما اوتي من ذكاء "من اختطف تنوير ومدنية الرزاز”، هنا تظهر أزمة واضحة بين الشارع ورئيس الحكومة بوجهه الجديد. وتزداد الازمة تعقيدا حين يكون هذا الشارع هو عمليا القاعدة الشعبية الحقيقية للرزاز نفسه.
من الواضح ان من يديرون المشهد الأمني خلف الرجل يدركون ذلك جيدا، وعلى الاغلب يتقصدون الفتك بقاعدته الحقيقية، ولكن الأخطر انه يتركهم يديرون اعتصام معلمين يطالب باستحقاقات وقعتها حكومة سابقة ولا تنفذها الحكومات المتتالية، بينما المعلمون انفسهم يتضررون من إصرار حكومته على تنفيذ تعهدات سابقة لصندوق النقد الدولي تارة وأخرى لاتفاقية غاز إسرائيل المثيرة للجدل، اذ ترتفع عليهم الضرائب وتقلّ قيمة رواتبهم الشرائية.
بخسارته الأولية لقاعدة المعلمين، يترك الرزاز رجل الشارع العادي يتساءل "ماذا سيفعل بنا، ان كانت الهروات بمواجهة الفئات الاحب لقلبه؟” وهو بذلك يزيد ببساطة منسوب الشك فيه وبحكومته التي من الواضح ان حمّاد قرر ان يكون احد مخالبها، ويظهر الوزير البارز مبارك أبو يامين خشونة غير مألوفة أيضا وهو يتوعد المعلمين باللجوء للقضاء.
في المقابل، من الواضح ان مراكز القوى في الدولة أيضا ممثلة بالقصر الملكي والجيش والمخابرات، كلها تنأى بنفسها عن سفينة الرزاز وقراراته، ففي زيارة رمزية يظهر الملك وولي عهده في دارة رئيس وزرائه الأول الدكتور عبد الرؤوف الروابدة، بعد ان كان الأخير مُبعدا عن القصر منذ خروجه من مجلس الاعيان قبل اكثر من ثلاثة أعوام، بينما اصدر الجيش توضيحا يؤكد فيه انه لم يشارك بأي حال في التصدي لاعتصام المعلمين.
عاهل الأردن ابدى غضبه من أداء الحكومة أصلا قبل أسبوعين وعلى الملأ الأمر الذي أظهر ان العد التنازلي لفريق الرزاز بدأ والغطاء الملكي عنه وعن حكومته رُفع فعلاً.
بهذه الصورة، يبدو ان الجميع اليوم بما فيهم القصر الملكي الذي دعم الرزاز بشدة بانتظار سقوط حكومته، وبانتظار اتخاذ الشارع للخطوة باعتبار الأخير على وشك ذلك أصلا، وهو الامر الذي من الواضح ان حكومة الرزاز تحاول تأجيله قدر الإمكان، أكثر من العمل على تغييره.