الكاتبة والأدبية "هند ابو الشعر" وحوار خاص حول كتابها الحديث .. (ذاكرة القدس في آخر العهد العثماني)
الشريط الإخباري :
حاورها سليم النجّار
علاقتي بالقدس لها جذور عائلية منذ مطلع القرن العشرين.
-كتابي عن القدس يؤكد على عروبة المدينة.
-امتازت القدس بتنوعها الاجتماعي والثقافي.
-كانت القدس في كل العصور تجتذب الحجاج من كل الجنسيات.
-لابد من تأسيس مراكز بحوث لخدمة دراسات القدس.
اللقاء مع الكاتبة والأديبة والأكاديمية الأردنية الدكتورة هند غسان أبو الشعر ، للحديث عن كتابها الجديد ( ذاكرة القدس في آخر العهد العثماني 1908 م – 1914 م ) الذي أعلنت عنه في محاضرة لها في منتدى الفكر العربي ، في خطوة استباقية قبل نشره ، والدكتورة هند كاتبة قصة قصيرة من الرواد الذين أسسوا للقصة الأردنية ولها ست مجموعات قصصية ومجموعة سابعة غير منشورة ، ولها ( الأعمال الأدبية الكاملة ) في الشعر والنصوص والمشاهد المسرحية والقصة القصيرة ، أستاذة التاريخ الحديث في جامعة آل البيت سابقا ، شغلت منصب رئيسة قسم التاريخ في الجامعة ، وعميدة كلة الآداب والعلوم ، وعميدة كلية الآداب والعلوم الإنسانية ، ومديرة مكتبة الجامعة الأردنية ، وكتبت عامودا أسبوعيا في صحف الرأي والدستور لسنوات طويلة ، تحمل درجة الدكتوراه في التاريخ الحديث من الجامعة الأردنية ، ودرجة الماجستير في التاريخ الإسلامي ، وهي عضو رابطة الكتاب الأردنيين ، وعضو منتدى الفكر العربي بعمان ، وعضو مجلس أمناء جامعتي الزيتونة وفيلادلفيا ، تحمل وسام الملك عبدالله الثاني ابن الحسين في الإبداع والتميز عام 2016 م ، ولها ما يقرب من 75 كتابا بين تأليف وتحرير ، وتعد الآن موسوعة لتاريخ الأردن في عهد الإمارة ( 1921 م -1946 م ) وتقع في خمس مجلدات تنشرها تباعا عمادة البحث العلمي في جامعة فيلادلفيا لهذا العام الذي يتم الاحتفال به بمئوية الدولة الأردنية ، وقد كان لنا معها هذا اللقاء لنحاورها حول كتابها الجديد في تاريخ القدس أواخر العهد العثماني :
س1 : كيف نشأت علاقتك مع القدس ..؟
هي علاقة لها جذورها في العائلة أولا ، فقد عاش أفراد عائلتي منذ مطلع القرن العشرين في القدس ، درسوا هناك وعاشوا فيها ، وأولهم الروائي عقيل أبو الشعر الذي عاش في القدس قبل عام 1912 م ، وكتب روايته الأولى بالعربية سنة 1912 م بعنوان : ( الفتاة الأرمنية بقصر يلدز ) وبسببها توارى عن انظار السلطة العثمانية في أوروبا ، وعقيل يحمل درجة الدكتوراه في الفلسفة واللاهوت ، وعاش في باريس ، وعاد إلى القدس مع بداية عهد الانتداب مندوبا عن الصحف الغربية التي كان يعمل بها ليوثق للهجرة الصهيونية وكيفية اغتيال القدس ، وقدم رواية باللغة الإسبانية عام 1920 م ، تحمل عنوان ( القدس حرة ) وكان قد كتب خمس روايات بالفرنسية والإسبانية ، وكنت وراء البحث عنه للحصول على رواياته ، وتمت ترجمة ثلاث منها من الفرنسية والإسبانية عن طريق وزارة الثقافة الأردنية ومنها رواية " القدس حرة " التي نشرت عام 2012 م .
كما ان باقي أفراد عائلتي جاؤوا من بلدة الحصن في شمال الأردن وعاشوا في القدس ودرسوا فيها ما بين سنوات 1912 م وحتى 1945 م ومنهم والدي ، وأعمامي الذين عملوا في القدس بالمحاماة ، وكان المحامي نجيب أبو الشعر من المدافعين عن أصحاب الأراضي في فلسطين من الذين تضيع أراضيهم مع الهجمة الصهيونية قبل سنة 1948 م ، وقد تفتح وعيي على ذكريات والدي عن القدس حيث درس في كلية تراسانطه ،و كان يُدرّس فيها عمي الأديب والإعلامي والمحامي أمين أبو الشعر .. القدس إذن عاشت في وجداني قبل أن أدرس عنها أو اعرفها أكاديميا .
أما معرفتي بالقدس أكاديميا فترجع إلى زمنين ، وانا طالبة ومن بعد وأنا أستاذة جامعية ، فقد قمت بتدريس مساق ( تاريخ القدس ) في الجامعة ، وهو مساق تُدرّسه كلّ الجامعات الأردنية ، وساهمتُ بتأليف وحدة ضمن كتاب مرجعي قامت الجامعة الأردنية بالإشراف على تأليفه من قِبل مجموعة عربية من الأكاديميين لوضعه بين أيدي طلاّب الجامعات الأردنية الذين يدرسون مساق تاريخ القدس ، أما تجربتي الخاصة في موضوع تاريخ القدس فترتبط باطلاعي على سجلاّت المحاكم الشرعية في القدس منذ عام 1523 م في القرن 16 و17 و18 وحتى مطلع القرن التاسع عشر ، كما اطلعتُ ودرستُ سجلّات الأوقاف بالقدس ، وهي كلها محفوظة في مركز الوثائق والمخطوطات بالجامعة الأردنية ، وأنا عضو في هذا المركز ، لذلك تمكنتُ من تقديم دراسات مُحكّمة في تاريخ القدس في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين اعتمادا على هذه السجلاّت العثمانية ، وهي تجربة تجعل الدارس العربي يعرف عروبة المدينة وأهلها ، حيث تستطيع من خلال الحجج الشرعية استعادة الحارات والبيوت والأهالي بأسمائهم ومهنهم في الأسواق ، وحرفهم ومرافق المدينة المقدسة من سُبل ومعاصر ومطاحن وحوانيت ومساجد وكنائس وحارات ، وتستطيع استعادة حياة الناس اليومية من خلال حجج الزواج والنفقة والبيع والشراء ، تعرف أهالي القدس ابتداء من القرن السادس عشر بأسمائهم وأوصافهم وهم يبيعون ويشترون ويدفعون المهور أو يقتسمون الأملاك .. تتابعهم في القرون اللاحقة أيضا ، كل ما يرد في هذه السجلات في مئات آلاف الصفحات يؤكد عروبة هذه المدينة .. هذه علاقتي بالقدس ، وهي كما ترى حميمة ، لأن فيها ذاكرة عائلة أردنية عربية ولأنها تمثل جهودي في عملي الأكاديمي ، وقد حظيتُ دوماً بفرصة الاطلاع على الأبحاث الأكاديمية التي تُقدم للمجلاّت المُحكّمة في دراسة القدس وقمتُ بتحكيم العشرات منها ، وهذا أعطاني فرصة أخرى ممتازة للاطلاع على آخر ما يقدمه الزملاء من جهود لدراسة تاريخ القدس ، وهذا يجعلني أتابع الدراسات باللغتين العربية والإنجليزية .
س 2 : هل أنصف التاريخ القدس ثقافيا ..؟
هل المقصود بهذا جهود العالم كله لدراسة القدس أم جهودنا نحن أهل القدس ..؟ وهذا يتفاوت من زمن لآخر ، ولا يمكن اعطاء إجابة قاطعة او عامة ،، فالقدس لم تكن في أي عهد مدينة هامشية أو بعيدة عن الثقافة ، علينا أن نتذكر انها مركز ديني له خصوصيته ، فيها كل الطوائف وهذا يجعلها غنية بثقافتها ، لكن الطابع العربي غلب عليها مع تعريبها مع الفتح العربي الإسلامي ، وهذا لا يعني ان القدس ذات لون واحد .. بل العكس امتيازها هو في تنوع الفئات والثقافات ، ولذلك فإن السؤال متشعب لأننا نتحدث عن قرون طويلة ومكان متعدد في فئاته السكانية وبالتالي في ثقافاتهم ، علينا أن نتذكر ان القدس اجتذبت مثلا الطلاب والمدرسين من كل حواضر ومناطق بلاد الشام ، ومن العراق ومصر ، ومن المشرق ومن الحجاز ومن بلاد فارس ومن الأناضول الذين يُعرفون بالأروام في العهد العثماني ، كانت القدس في كل العصور تجتذب الحجاج من كل الجنسيات ، وقد وجدتُ إحصاء لعام 1908 م بأن الحجاج الذين وفدوا للقدس لحضور الاحتفالات بعيد ميلاد السيد المسيح كانوا اكثر من 13 ألف حاج في ذلك العام ، مما يعني ان القدس كانت قادرة على استيعاب هؤلاء بمرافقها وفنادقها وأسواقها ، عدا عن قدوم الطلاب للدراسة فيها وبعضهم كان يجاور فيها ويبقى ولا يعود إلى بلاده .. وأنا أعتقد ان الضعف في توثيق التاريخ الثقافي للقدس يعود إلى طبيعة الدارسين ، فهذا يحتاج للغات متعددة ( نتذكر ان فيها الأرثوذوكس الذين يدرسون باليونانية ، والفرنجة الذين يدرسون باللاتينية والفرنسية ، والجورجيين بالروسية ، والأنجليكان بالإنجليزية .. والأهم من كل هذا المصادر العربية المتنوعة وهي كثيرة جدا فالقدس مدينة عربية أولا وقبل كل شيء .. ولكننا أيضا امام تعدد مدهش في مصادر الثقافة وبالمقابل امام نقص مؤسف في الدارسين الذين يستطيعون الوصول إلى هذه المصادر المتنوعة بلغاتها وثقافاتها .. وهذا سبب في نقص تناول ثقافة القدس كما يجب .. كتابة تاريخها الثقافي لأجيال تحتاج لجهود استثنائية وزمن طويل .
س3 :لا زال سؤالي كيف الوصول لكتابة تاريخ القدس من مختلف النواحي ..؟
هذا سؤال مشروع ، وهو يؤشر على نقص ثقافة الدارسين أولا ، يعني أن علينا ان ندرس مثلا عمارة القدس وآثارها وهذا يحتاج لمختصين في الفنون وأكاديميين لهم باع طويل ومقدرة على دراسات بلغات متعددة لدراسة الأثر الكلاسيكي ، سواء أكان باليونانية أو السريانية أو اللاتينية أو العبرية أو العثمانية او العربية ..هذا جانب واحد وهو العمارة والنقوش التي تجدها على مباني القدس توثق للزمن الذي مرّ على المدينة المقدسة ، النقوش لوحدها تحتاج لعلماء من بعد( فان برشم ).. ما زلنا لم نقدم ما قدمه( فان برشم ) مثلا في توثيقه ودراسته للنقوش في بيت المقدس
وإذا انتقلنا لدارسة المخطوطات نحتاج لأصحاب اختصاص يتمكنون من تحليل الخطوط المكتوبة في العهد المملوكي أو العثماني ممن يملكون القدرة على القراءة الفنية والتحليل .. أي الخطوط والنقوش ، أما السجلات المحفوظة بالقدس فهي بالآلاف وتنتظر مَن يعكف عليها ويستخرج تاريخ المدينة واهاليها عبر العصور .. إذن هذا تقصير منا وكنوز القدس أكبر من أن تحصى ، أتوقف فقط عند كتب الرحلات المكتوبة بكل اللغات للرحالة الذين زاروا القدس عبر العصور من كل بلدان العالم وأقول ما زلنا لا نعرف إلا أقل القليل ، وماذا عن الخرائط التي رسموها للقدس ومعالم القدس ..؟ ماذا عن رحلات المغاربة الذين جاؤوا وزاروا القدس وكتبوا رحلات بالعربية عدا عن رحلات الفرنجة والبيزنطيين والأتراك والفرس والروس .. هذا تقصيرنا نحن الذين نتحدث عن مئات الجامعات العربية ، وعن آلاف المصادر في المدينة المقدسة ، هذا تقصير منا ..القدس حالة خاصة ولا يمكن لجيل واحد من الدارسين أن يقدم المطلوب .
س 4 : يبقى السؤال لماذا لم تتطور الكتابة عن القدس وبقيت محصورة بثقافة الضحية ..؟
أعتقد أن علينا أن ننصف الدارسين في الثلاثين سنة الماضية ، حيث استطاع البعض توظيف مصادر جديدة وتقديم دراسات لمرحلة محددة ، أقصد بذلك ما قام به بعض الدارسين في الجامعات في فلسطين وفي الأردن تحديدا لسجلات المحاكم الشرعية المقدسية ، وبعضهم نشر كتبا أو أبحاثا من خلال هذه السجلات عن القدس ، ولم يقدموا ( صورة الضحية ) كما تقول ، يعني درسوا المجتمع المقدسي بكل مكوناته ، والمرافق في القدس ، والمدارس في القدس والمكتبات العائلية والشخصيات المقدسية وانجازها الفكري والثقافي ، أما موضوع ( صورة الضحية ) كما أفهمها ، فالوضع الطبيعي أن يتابعوا كيفية تسرب الأراضي للمهاجرين الصهاينة اعتبارا من سنة 1885 م وكيف استطاعت الوكالة اليهودية تحقيق أهدافها البشعة وتوظيف مخططاتها في كل فلسطين ، هذا ما أفهمه بصورة الضحية ، وهي دراسات قامت على وثائق وليس على تصورات عاطفية ، يعني على عمليات موثقة ، نحن نتحدث هنا عن تاريخ منهجي يعتمد التوثيق وليس عن مجرد كتب ، إن الحكم على كل ما يكتب بأنه لم يقدم حالة من التطور غير دقيق ، لأن هناك دراسات تنشر ولكن غالبيتها في المجلات المُحكّمة التي لا يطلع عليها إلا المختص ، وهذا عيب في مثل هذه الدراسات وخاصة التي تنشر بلغات غير العربية لأن القارئ العربي اليومي لا يراها ولا يعرفها ويضيع جهد الدارس مع الأسف ، وأنا أعتقد ان هذا تقصير من الجميع ، لأننا لا نجد مؤسسات ممولة تنشر الإنتاج المقدسي الرصين وتعممه .. الأغنياء لا يفكرون عندنا بتقديم مثل هذه الخدمة ولا يقومون بتأسيس مراكز بحوث لخدمة دراسات القدس .. نحن عندما نكتب دراسات مقدسية نحتار في نشرها ولا نجد مَن يدعمنا .. والكل يتغنى بالقدس ولكن لا أحد يقدم شيئا يسيرا من ثرواتهم خدمة للدراسات المقدسية .. إنها معادلة مؤسفة والقدس هي الخاسر الأول .
س 5 : هل صحيح انه ما زالت الكتابة عن القدس تفتقر إلى طرق التفكير العلمية والواقعية والعقلانية التي تٌعد الرافعة الحقيقية للتقدم والقادرة على انتاج المعرفة والثقافة للتعريف بأهميتها ..؟
هذا أيضا حكم جائر ، لا تنسى ان هناك أجيال جديدة من الأكاديميين الذين تلقوا علومهم على درجات متميزة من المنهجية ، وهذا يعني ان الأبحاث التي يقدمونها ستكون محكومة بهذا المنهج العلمي والعقلاني ، لذلك يجب ألا نقيس ما نجده في الكتب التي تطبع طبعات شعبية ، وطبعا نحن نُقدّر مشاعر وعواطف أصحابها الذين يكتبون بدافع من هذه العواطف ، لكن الأصل ان تكون الدراسات التاريخية منهجية وتخاطب العقل وتلتزم بحدود المنهج العلمي ، يجب أن نتذكر أن مَن يكتب عن القدس يكتب عن مدينة تتعرض للاستلاب والتهويد وضياع الهوية وتهجير أصحابها وخاصة من المسيحيين المقادسة الذين تضاءلت أعدادهم بشكل مؤسف .لذلك فإن ما يُكتب يجب أن يعتمد التوثيق والدقة ..كيف لنا أن ندين مصادرة أرض لمقدسي إن لم يكن لديه ما يثبت ملكيتها ..؟ هذا هو الفيصل الذي نعتمده ، الأهالي يملكون وثائق تؤكد ملكيتهم عبر أجيال وأجيال ، وما يحتفظ به من سجلات طابو مع العهد العثماني منذ سنة 1876 م وحتى نهاية العهد العثماني يثبت كل هذه الملكيات ، كما أن الملكيات منذ عهد الانتداب محفوظة سجلاته في دائرة الأراضي بعمان بصورة من الحرص الكبير .. بناء على هذه الأدلة التي لا مجال للشك فيها يمكن أن نكتب تاريخ المكان في القدس بحاراته ومرافقه وأسواقه .. وأنا أرى أن إطلاق الأحكام العامة يحتاج إلى إعادة نظر ، عشرات الباحثين يكتبون بطريقة منهجية وهذا أمر مطمئن ، لكنه غير كاف بالتأكيد، قياسا للثراء الكبير الذي نجده في هذه المدينة من معالم ومرافق ومخطوطات ونقوش .
س 6 : يرى المتتبع لما يكتب عن القدس أنها تحولت إلى مسألة نخبوية ولم يعد لها طابع شعبي يساهم في رفع الوعي الثقافي عند اغلب قطاعات القراء ..؟
أعتقد أنني لا أتفق مع موضوع النخبوية كثيرا ، لا توجد كتابات للنخبة أو بطريقة نخبوية ، إما أن تكتب للحقيقة ولكل من يقرأ أو فلا .. ومع ذلك فإن هناك مواضيع تفترض أن تكون موجهة لمختصين وأنا معك في هذا ، واعطيك مثلا ، لو أراد أحد الدارسين ان يقدم دراسة للجص الذي يزين شبابيك المسجد الأقصى مثلا أو كنيسة القيامة ، أو أراد الحديث عن الزجاج الملون فيهما ، فإنه سيكون مضطرا للحديث عن الجانب الكيميائي في نسب مزج الزجاج والكيفية التي يقوم بها المعماري في تصنيع هذه المواد ، وقد يورد معادلات كيميائية مثلا .. فهو يخاطب هنا مختص وليس قارئ تقليدي .. فهل تعتبره نخبوي ..؟ هذه موضوعات تؤشر على تنوع المجالات التي يمكن للدارس أن يتحدث فيها في عالم القدس الواسع ، لكن الحقائق التاريخية تظل هي الفيصل وتقود إلى مسألة أساسية وهي الحفاظ على عروبة هذه المدينة وعلى تفردها وتنوعها في آن ، ودعنا نتفق على ان طبيعة الموضوع والتناول هو الذي يجعل بعض الدراسات عن القدس تأخذ هذا الطابع ، وأريد ان أعطي مثلا على ان الدراسات المقدسية المتطورة والمحسنة مهما كانت درجة تخصصها تشد القارئ ، فقد قام المؤرخ المقدسي المعروف الدكتور محمد هاشم غوشة عام 2019 م بنشر موسوعة متكاملة مكونة من 21 مجلدا بعنوان ( باليستينيكا ) لكل مفاصل الحياة في فلسطين ، وهذه الموسوعة متخصصة ومتنوعة وتميل للجانب الأكاديمي ، ولكنها مع ذلك أخذت اهتماما شعبيا لأنها توثق لفلسطين في كل مراحل تاريخها وتورد تفاصيل مصورة بذل فيها الباحث جهودا كبيرة في الجمع والكتابة والتوثيق ، مع أنها بالإنجليزية لكنها حالة مقدسية غير مسبوقة ، كما قدم أيضا مجلدات سابقة موثقة بالصور للقدس في العهد العثماني وفي عهد الانتداب وفي العهد الأردني ..وعلى كل فأنا أرى أن ما تسميه دراسات نخبوية أيضا مطلوبة لنخاطب من خلالها كل الفئات في العالم كله ، فهذه الموسوعة بالإنجليزية ضرورية لنا لنصل بها العالم ، ولكنها لا تغني عن الطبعات الشعبية الموجهة لكل الفئات ، ومع ذلك فسؤالك كبير وطرحه بحاجة لإعادة نظر في خطابنا الذي نقدمه لأنفسنا وللعالم وللزمن القادم .
س 7 :الكتابة عن القدس ليست هذرا وينبغي على الكاتب التوقف عند كل جملة والتأكد من هدفها ووظيفتها في السياق وما نقرأه الآن في الأغلب هي كتابة إخبارية أو توضيحية ..؟
أوافقك .. نعم لا يمكن ان نكتب أي شيء ونقبل به .. هذا مصير المدينة المقدسة ولا يمكن أن تكون الكتابة ( ترفا ) او ( موضة ) أو حتى مجرد ( حالة إخبارية ) .. هذا مصير مدينة وأهاليها وتراثها المهدد بالمصادرة وأهاليها الذين يهجرهم الكيان المحتل .. وأريد ان أقول بأن ما ينشر في السوق غير ما ينشر في المجلات المتخصصة والمحكمة التي يجب ان تراعي المنهجية ، لذلك فإن هذا الحكم صحيح إذا كنت تتحدث عن المنشورات الشعبوية إذا سمحت لي أن أستخدم هذا التعبير .. نعم انا معك بأنه لا يجوز لأحد أن يتسلق على أكتاف القدس .. فالقدس أعظم كثيرا من كل الكتب ..ولكن القارئ قادر على التصنيف وهو غير ملزم بتصديق كل ما يجده منشورا ، عليه ان يختار ما يقرأ ، والخلل فيمن يقبل بنشر مثل هذه الكتب .. الخلل في دور النشر التي لا تضع المعايير وتطبقها وتقبل بنشر ما يساعدها على تحقيق الربح والبيع فقط دون أن تضع في حسبانها قيمة وخطورة ما تنشر ..!!
س 8 : بصراحة هل كتبت الرواية التاريخية العربية عن القدس ..؟
هذا سؤال جيد ، وهو المطلوب أن يتم توجيهه لكل من يكتب التاريخ ، فإذا كان الكاتب والمؤلف بلا خبرة منهجية فإن هذا التخوف قائم ، وإذا لم يطلع على كل المصادر الممكنة وأخذ برواية واحدة فهذا يؤدي بكل بساطة إلى تبني وجهة نظر واحدة وهذا ليس تاريخا موضوعيا ..هنا أتحدث بشكل عام ولا اتحدث عن تاريخ القدس ، أما موضوع كتابي فأنا اخترت مرحلة تاريخية صعبة ومفصلية في تاريخنا بعامة وفي تاريخ القدس بشكل خاص ، حيث أن سنة 1908 م كانت السنة التي اعيد فيها الدستور وسيطر الاتحاديون على السلطة ، وما بين سنة 1908 م ونشوب الحرب العالمية الأولى سنة 1914 م ، كانت الأحداث خطيرة في كل انحاء الدولة ، وبخاصة في القدس ، حيث صعدت الوكالة اليهودية من نشاطها لزيادة حجم الاستيطان ، وازداد عدد المهاجرين الذين وصلوا من روسيا وبلاد شرق أوروبا ومن ألمانيا .. مصدري الرئيس هو صحيفة القدس التي سجلت كل صغيرة وكبيرة في المدينة ومن كل المصادر ، كانت هذه الصحيفة أول صحيفة مقدسية تصدر باللغة العربية وترجع للصحافة الرسمية ولصحافة العالم ولما تورده وكالات الأنباء ولم تقدم وجهة نظر واحدة ، قدمت الأحداث الإدارية التي تخص الدولة العثمانية ومتصرفية القدس ومجلس المبعوثان ، وما تنشره بلدية القدس بكل يوميات المدينة ، ومواسمها بقدوم الحجاج وموسم النبي موسى ، ومدارس القدس وطلابها ومناهجهم ومسارح القدس والسينما والمحاضرات والفرق الموسيقية ، كل مظاهر الحياة الثقافية اليومية رصدتها حتى مشكلة المياه ، ودور القناصل الأجانب ، وقدوم المهاجرين الصهاينة من كل أنحاء العالم ونشرت قوائم بأسماء ما سمتهم ( بالإسرائيليين ) ، وهذه اليوميات المقدسية هي ذاكرة المدينة التي لا تترك صغيرة او كبيرة إلا وترصدها وتقدم ذاكرة القدس من خلال البلدية وقراراتها وقرارات المتصرفية ودور الدولة ، ولا بد وأن نلاحظ ما كان يتم في القدس من نشاط الطوائف المسيحية والحجاج من كل جهات العالم ، وموقف الدولة من الطوائف كافة من مسيحيين ويهود وما كانت القنصليات الأجنبية تقوم به في القدس .. وفي 500 صفحة استعدتُ الصورة اليومية للقدس ، وهذه رواية المكان والناس فيها ما بين سنتي 1908 م و 1914 م ، ولا شيء أصدق من رواية المكان ، والفيصل هنا هو المصدر .. لم أقدم الرواية الرسمية ولا الرواية التي تخص طائفة أو فئة ، الرواية للمدينة بكل فئاتها في زمن محدد نظرت إليه بالمجهر ولكن من زوايا متعددة ، هذا ما فعلته .
س 9 : أكثر ما يشغلني منذ زمن في حياتي الثقافية نوع الجواب الذي أريده عن سؤال : كيف نكتب عن القدس ..؟
ربما يشغل هذا السؤال كل من يخاف على القدس وعلى كل فلسطين ..أولا : يجب أن أقول بأن علينا أن لا نتوقف عن الكتابة للقدس وعن القدس ، هذا أولا ، أما ( مَن الذي يكتب ) فهو برأي السؤال الأكبر ، لأن مَن يكتب يُحدد ( ماذا ) نكتب ..؟ لا يمكننا أن نمنع مَن أراد الكتابة سواء في الحقل السياسي أم الاقتصادي أم التاريخي أم الأدبي واي حقل آخر أن يكتب ، وأقول باختصار إن الفيصل هنا ( كيف نفكر ..؟ ) لأننا نكتب كما نفكر ، والمسألة كما أراها ترتبط بعقليتنا وتربية عقولنا ، نكتب عن القدس وللقدس لأنها حالة خاصة وجماعية ، لأنها لنا كلنا ، علينا أن نجعل الخطاب الواعي هو الفيصل .. أتفهم السؤال لأنك تخاف من الخطاب ، وتريده خطابا يليق بحجم هذه المدينة وبحجم القضية التي تستحق أن نحمل من أجلها الأقلام النبيلة وليس المأجورة .. ألم أقل لك أن السؤال هنا ( من الذي يكتب ) ، لأن القلم هو الذي يحدد ما يُكتب .
س 10 – ألا تعتقدين أنه في الآونة الأخيرة بدأت تظهر بعض الكتابات عن القدس تحمل طابعا أيديولوجيا صرفا ، وتنحو نحو التسييس ..؟ .
هذا لا يخص ما يكتب عن القدس وحدها ، وأنا من موقعي الأكاديمي أتمنى أن أكتب بروح الأكاديمية التي تحترم المنهج ، وتبحث عن الحقيقة ، والقدس ليست سوقا للصراع الأيديلوجي حتى نتعارك عليها ، إنها مكان نبيل يسكن في الأرواح ، وخسرانها سيصيب أرواحنا بالعطب ولن يكسب أصحاب أي صراع أيدلوجي إن خسرنا القدس .. وأسأل : ما فائدة العالم كله إن خسر المرء روحه ونفسه ..؟ وأقول مع فيروز ( للقدس سلام آت .. آت ) لأنها " الملاذ " لنا كلنا ، الملاذ لأرواحنا ، وأكرر من جديد ، ما فائدة أن يربح الأيدلوجيون مواقف يسجلونها ، ونخسر القدس ..؟ .
وختاما أحب من خلال هذه المقابلة أن أقدم تحية خاصة للأهرام ، المنبر العريق ، وأن أقول بأنني حصلت على نسخة لأول عدد صدر من الأهرام بالإسكندرية ( يوم السبت 5 أغسطس / آب سنة 1876 م ، وقدمت دراسة تحليلية له ونشرتها في جريدة الرأي الأردنية قبل أعوام ، وأنا سعيدة حقا بأن يقرأ قراء الأهرام مقابلتي اليوم ، بعد مرور 145 عاما على صدور الأهرام ، دامت بكل الألق والبهاء وهي تكاد تصل القرن ونصف القرن من عمرها المديد .