قبل 4 سنوات، دعا رئيس بلدية قرية «غولزوف» الألمانية، فرانك شوتز، المهاجرين السوريين إلى قريته النائية، حيث يحظى تيار اليمين المُتطرّف المناهض للمهاجرين بشعبية كبيرة، ويشعر العديد من السكان المحليين بأنهم بالفعل مواطنون من الدرجة الثانية.
كانت الدعوة محفوفة بالمخاطر، وكان شوتز يعرف ذلك. وقال أحد مصففي الشعر بالقرية إن هذا «جنون». واعتبر أحد المزارعين أنَّ هذا الأمر «مستحيل».
لكنها كانت الطريقة الوحيدة لإنقاذ مدرسة قرية غولزوف، التي على غرار العديد من المناطق الريفية في ألمانيا الشرقية الشيوعية السابقة فقدت ثلث سكانها في سنوات الاضطرابات عقب سقوط جدار برلين.
عقود من العزلة والعيش خلف الستار
انخفض عدد الأطفال في سن المدرسة بقرية غولزوف إلى مستوى جديد في صيف عام 2015، مع وصول مئات الآلاف من المهاجرين إلى ألمانيا. لم يعد هناك تلاميذ بالصف الأول. كانت هذه بداية النهاية لمدرسة كانت ذات يوم محل تصوير «أطفال غولزوف»، وهي سلسلة أفلام وثائقية عن الحقبة الشيوعية الملحمية تابعت حياة مجموعة من تلاميذ الصف الأول خلال عقود من العزلة والعيش خلف الستار الحديدي.
لكن بعد ذلك، وصل «أطفال غولزوف الجدد» مع والديهم، كما وصفهم شوتز، وهم: برهان، وكمالا، وحمزة، ونور، وتسنيم، وريتاج، ورفيف، ورؤى، ومحمد الكبير ومحمد الصغير. وقال شوتز في مقابلة أجراها مؤخراً: «لقد أنقذ السوريون مدرستنا». وبطريقة ما، أنقذت غولزوف نفسها.
نموذج مصغر لألمانيا
تقول صحيفةThe New York Timesالأمريكية، التي تروي حكاية هذه القرية، إنه عندما يتعلّق الأمر بالترحيب بالمهاجرين، تعتبر قرية غولزوف، على الأقل من الناحية الحسابية، نموذجاً مصغراً لألمانيا. بالنسبة للقرية البالغ عدد سكانها 820 نسمة، يُمثّل الـ 16 سورياً، الذين استقرّوا فيها، نفس نسبة عدد المهاجرين السوريين بالنسبة لسكان ألمانيا، مع وصول حوالي 1.5 مليون لاجئ سوري إلى جميع أنحاء البلاد بعد عام 2015.
قصتهم هي حكاية عن إقامة علاقات صداقة مع الآخر حتى مع حقيقة تصويت شخص واحد من بين كل أربعة أشخاص في القرية لصالح حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المُتطرّف في الانتخابات الأخيرة.
هذا دليل أيضاً على أنَّه على الرغم من المخاوف من تأجيج لهيب الشعبوية في أكبر ديمقراطية في أوروبا، يتواصل دمج مئات الآلاف من المهاجرين بهدوء، بمعدل قرية واحدة في كل مرة. وتبيّن الإحصاءات الحكومية أنَّ أكثر من واحد من بين كل ثلاثة مهاجرين سوريين يعملون حالياً في جميع أنحاء البلاد.
الحياة تدبّ في القرية المعزولة
تغيَّرت قرية غولزوف للأفضل بعد 4 أعوام من وصول السوريين، ويبدو أنَّ معظم سكان القرية متفقون على ذلك. دبَّت الحياة في الشقق الخالية. وتُعرض المعجنات العربية بجانب فطائر التفاح الألمانية في معرض «دوار الشمس» السنوي. وعندما يحتاج حارس المدرسة إلى المساعدة في كنس أوراق الأشجار المتساقطة، يكون الآباء السوريون، فادي وأحمد ومحمود، من أول المتطوعين.
تولَّى أحد القرويين، الذي يعيش أحفاده على بعد مئات الأميال، رعاية ثلاثة أطفال سوريين، وعلّمهم الصيد والسباحة. يُطلق عليه الأطفال اسم «الجد».
لكن لم يكن الأمر دائماً على هذا النحو. عندما جمع شوتز سكان القرية لأول مرة لشرح فكرته بشأن جلب السوريين، كان هناك الكثير من الارتياب.
قال ماركو سايدلت، الذي أصبح ابنه البالغ من العمر 11 عاماً، ويُدعى دافي، لديه فجأة ثلاثة زملاء سوريون في فصله المدرسي: «اعتقدت أنَّ الأمر لن ينجح. يعتنق السوريون ديناً مختلفاً، لن يتحدث أطفالنا اللغة الألمانية بطريقة صحيحة بعد الآن».
وذكر شوتز أنَّ آخرين شعروا بالقلق من أن يكون القادمون الجدد مثيري شغب أو لصوص.
على الجانب الآخر، كانت السورية حليمة طه مُتشكّكة أيضاً. قالت حليمة إنَّ أصدقاءها السوريين صُدموا عندما علموا أنَّها نُقلت بالحافلة مع عائلتها من برلين إلى مركز لطالبي اللجوء في شرق ألمانيا ثمَّ إلى قرية غولزوف في نهاية المطاف، قائلين لها في مكالمة هاتفية: «شرق المانيا، هل أنتِ مجنونة. هم لا يحبون الأجانب هناك. هذا المكان خطر».
لكن بعد ذلك، بذل الجانبان جهداً للتعايش، وتفاجأوا بمقدار إعجابهم ببعضهم البعض.
الألمان يستقبلون السوريين بالكعك والزهور والألعاب
حليمة طه هي أم لثلاثة أطفال تبلغ من العمر 32 عاماً، تتمتّع بشخصية مشرقة وتتحدث اللغة الألمانية بلكنة محلية لطيفة. تتذكَّر حليمة الزهور والألعاب، التي أحضرها رئيس البلدية معه عندما جاء للترحيب بعائلتها لأول مرة في منزلهم الجديد. كذلك، تبرَّع سكان القرية بعدد من الأشياء لمساعدة الأسرة في تجهيز شقتهم، من بينها أطباق ومجموعة من قرون الغزلان.
استقبل الآباء الألمان الأسر السورية بكعكة في أول أيام الدراسة، غير منتبهين أنَّهم صائمون لأنه شهر رمضان. سادت لحظات حرج وارتباك، ثم ضحك الجميع، وقطَّعت حليمة الكعكة.
طلبت حليمة من أطفالها منذ اليوم الأول إلقاء التحية على كل قروي في الشارع باللغة الألمانية. وقالت عن جهودها للاندماج: «لقد تعلمت من خلال المشاهدة».
اشترت العائلة كلباً من سلالة German shepherd، وتزرع الخضراوات في قطعة أرض مؤجرة، في اتباع لتقليد ألماني بعد الحرب. يذهب زوج حليمة، فادي، للصيد مثل بقية رجال القرية الآخرين.
وجد جميع المهاجرين البالغين السوريين الستة أعمالاً في الوقت الحالي. تعمل حليمة طه، الحاصلة على شهادة سورية في الصيدلة غير معترف بها في ألمانيا، في دار لرعاية المسنين، حيث تشغل واحدة من عدة وظائف شاغرة في بلد يعاني من شيخوخة سكانية متسارعة.
«السوريّون أصبحوا جزءاً مهماً من مجتمعنا»
قال غابي توماس، مدير مدرسة القرية، عن الأسر السورية لصحيفة نيويورك تايمز: «لقد أصبحوا جزءاً مهماً من مجتمعنا». برزت نقطة تحوّل عند احتجاج سكان القرية في أكتوبر/تشرين الأول 2015، بعد بضعة أشهر من وصول السوريين.
قاطع السكان الغاضبون أحد السياسيين الإقليميين عندما كان يحاول إقناعهم بإيواء العشرات من اللاجئين الشباب الذكور في صالة الألعاب الرياضية بالمدرسة.
فجأة، أخذت حليمة الميكروفون وقالت إنَّها أيضاً تشعر بالقلق إزاء الشباب، الذين سكنوا بجوار المدرسة وروضة الأطفال، وإزاء قدرة القرية على استيعاب مزيد من اللاجئين.
بعد ذلك، دعم عدد كبير من أكثر المرتابين حماسة الفكرة. قال ماركو سايدلت، الذي كان متشككاً للغاية قبل 4 سنوات، أثناء ذهابه لإحضار ابنه من المدرسة: «لم أكن أتوقع ذلك، لكنهم يندمجون داخل المجتمع على نحوٍ جيد للغاية».
التغلُّب على التحيّز
التغلُّب على التحيّز ضدك هو أمر صعب. يعرف سكان غولزوف ذلك مباشرةً. عندما سقط جدار برلين قبل 30 عاماً، فاز الألمان الشرقيون بالحرية والديمقراطية. لكنهم فقدوا وظائفهم، ومكانتهم الاجتماعية وتقريباً بلدهم بين عشية وضحاها. ينظر كثيرون الآن إلى إعادة التوحيد باعتباره استيلاءً غربياً فشل في الاعتراف بأي شيء كان يُميّز الحياة في الشرق الشيوعي، ناهيك عن القيم.
قالت كارينا كافيدوف، متقاعدة محلية، بمرارة: «لقد اختُزلت 40 عاماً من تاريخنا في جرائم وزارة أمن الدولة في ألمانيا الشرقية (Stasi)».
لهذا السبب يشعر كثيرون في غولزوف بالأسف حيال عدم معرفة سوى عدد قليل من الغربيين بسلسلة أفلام«أطفال غولزوف»الوثائقية، التي أرّخت حياة 18 طفلاً بدايةً من يومهم الأول في المدرسة في أغسطس/آب 1961 –أي بعد أسبوعين من بناء جدار برلين- حتى عام 2007. وقد رسمت تلك الأفلام صورة دقيقة للحياة في ظل الشيوعية أكثر من التصوّر الغربي السائد.
قال برنهارد غودريان، سائق جرّار متقاعد كان واحداً من الأطفال الذين ظهروا في الفيلم الوثائقي: «كنَّا نعيش ونحب ونحتفل مثل بقية الشعوب في أماكن أخرى».
إذا كشف أطفال غولزوف الأصليون زيف الأساطير الغربية عن الألمان الشرقيين، فإنَّ أطفال غولزوف الجُدّد قد كشفوا زيف الأساطير عن المهاجرين.
قواسم مشتركة بين أهل القرية والمهاجرين السوريين
خلال هذه العملية، اكتشف سكان القرية المحلّيون وجيرانهم السوريون الجدد أنَّ لديهم بعض القواسم المشتركة. إذ يشعر كلاهما بمحنة النزوح. كان لدى الألمان الشرقيون، بطريقة ما، تجربة هجرة خاصة بهم في بلدهم.
تتضح بعض أوجه التشابه بصورة لافتة للنظر. استقرَّ العديد من القرويين في غولزوف وهم أطفال، بعد أن فرّوا من الأراضي الألمانية في بولندا في نهاية الحرب العالمية الثانية. وكان من بينهم رئيس بلدية سابق.
قال شوتز، رئيس البلدية الحالي: «يمر الأطفال السوريون في القرية بنفس تجربة الحياة التي مرَّ بها الأشخاص الأكبر سناً في القرية. كلاهما يعرف ما يبدو عليه الأمر عندما تنفجر قنبلة يدوية». وأشار إلى أنَّ كليهما ينتفض عند سماع صوت الألعاب النارية في معرض «دوار الشمس».
الأمور تسير على نحوٍ جيد
لا تحب حليمة طه أن تتحدث عن رحلتها، التي استغرقت عامين، عندما أخذت عائلتها من مدينة اللاذقية الساحلية السورية إلى غولزوف. لا يزال يراودها كوابيس في منامها حول رؤية عربة أطفال وزجاجة طفل رضيع تطفو فوق سطح مياه البحر المتوسط أثناء عبورها في زورق مكتظاً بالمهاجرين، فيما يُمثّل تذكيراً بأنَّ ثمة آخرين لم يحالفهم الحظ مثلما كان حليفاً لأسرتها.
قالت حليمة إنَّ عائلتها كانت ميسورة الحال في سوريا، لكنهم حالياً ممتنون ببساطة لكونهم على قيد الحياة. عندما تشتكي ابنتها في بعض الأحيان من اضطرارها إلى المساعدة في تنظيف المنزل لأنَّهم اعتادوا أن يكون لديهم عامل تنظيف، تمسك حليمة بها من كتفيها وتقول لها: «نحن حالياً لاجئون».
ومع ذلك، أشارت حليمة إلى أنَّ الأمور في مجملها تسير على نحوٍ جيد. تجيد كمالا (12 عاماً) وأخويها بورهان (11 عاماً) وحمزة (6 أعوام) اللغة الألمانية بطلاقة لدرجة أنَّهم يتشاجرون مع بعضهم البعض بالألمانية. قال غابي توماس، مدير المدرسة: «هذه هي المرحلة التي تعلم عندها أنَّهم اندمجوا تماماً». يستطيع أصدقاؤهم الألمان أيضاً العد من 1 إلى 10 باللغة العربية.
وتُخطط الأسرة بأكملها، في غضون 4 أعوام، للتقدُّم بطلب للحصول على الجنسية
قبل 4 سنوات، دعا رئيس بلدية قرية «غولزوف» الألمانية، فرانك شوتز، المهاجرين السوريين إلى قريته النائية، حيث يحظى تيار اليمين المُتطرّف المناهض للمهاجرين بشعبية كبيرة، ويشعر العديد من السكان المحليين بأنهم بالفعل مواطنون من الدرجة الثانية.
كانت الدعوة محفوفة بالمخاطر، وكان شوتز يعرف ذلك. وقال أحد مصففي الشعر بالقرية إن هذا «جنون». واعتبر أحد المزارعين أنَّ هذا الأمر «مستحيل».
لكنها كانت الطريقة الوحيدة لإنقاذ مدرسة قرية غولزوف، التي على غرار العديد من المناطق الريفية في ألمانيا الشرقية الشيوعية السابقة فقدت ثلث سكانها في سنوات الاضطرابات عقب سقوط جدار برلين.
عقود من العزلة والعيش خلف الستار
انخفض عدد الأطفال في سن المدرسة بقرية غولزوف إلى مستوى جديد في صيف عام 2015، مع وصول مئات الآلاف من المهاجرين إلى ألمانيا. لم يعد هناك تلاميذ بالصف الأول. كانت هذه بداية النهاية لمدرسة كانت ذات يوم محل تصوير «أطفال غولزوف»، وهي سلسلة أفلام وثائقية عن الحقبة الشيوعية الملحمية تابعت حياة مجموعة من تلاميذ الصف الأول خلال عقود من العزلة والعيش خلف الستار الحديدي.
لكن بعد ذلك، وصل «أطفال غولزوف الجدد» مع والديهم، كما وصفهم شوتز، وهم: برهان، وكمالا، وحمزة، ونور، وتسنيم، وريتاج، ورفيف، ورؤى، ومحمد الكبير ومحمد الصغير. وقال شوتز في مقابلة أجراها مؤخراً: «لقد أنقذ السوريون مدرستنا». وبطريقة ما، أنقذت غولزوف نفسها.
نموذج مصغر لألمانيا
تقول صحيفة The New York Times الأمريكية، التي تروي حكاية هذه القرية، إنه عندما يتعلّق الأمر بالترحيب بالمهاجرين، تعتبر قرية غولزوف، على الأقل من الناحية الحسابية، نموذجاً مصغراً لألمانيا. بالنسبة للقرية البالغ عدد سكانها 820 نسمة، يُمثّل الـ 16 سورياً، الذين استقرّوا فيها، نفس نسبة عدد المهاجرين السوريين بالنسبة لسكان ألمانيا، مع وصول حوالي 1.5 مليون لاجئ سوري إلى جميع أنحاء البلاد بعد عام 2015.
قصتهم هي حكاية عن إقامة علاقات صداقة مع الآخر حتى مع حقيقة تصويت شخص واحد من بين كل أربعة أشخاص في القرية لصالح حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المُتطرّف في الانتخابات الأخيرة.
هذا دليل أيضاً على أنَّه على الرغم من المخاوف من تأجيج لهيب الشعبوية في أكبر ديمقراطية في أوروبا، يتواصل دمج مئات الآلاف من المهاجرين بهدوء، بمعدل قرية واحدة في كل مرة. وتبيّن الإحصاءات الحكومية أنَّ أكثر من واحد من بين كل ثلاثة مهاجرين سوريين يعملون حالياً في جميع أنحاء البلاد.
الحياة تدبّ في القرية المعزولة
تغيَّرت قرية غولزوف للأفضل بعد 4 أعوام من وصول السوريين، ويبدو أنَّ معظم سكان القرية متفقون على ذلك. دبَّت الحياة في الشقق الخالية. وتُعرض المعجنات العربية بجانب فطائر التفاح الألمانية في معرض «دوار الشمس» السنوي. وعندما يحتاج حارس المدرسة إلى المساعدة في كنس أوراق الأشجار المتساقطة، يكون الآباء السوريون، فادي وأحمد ومحمود، من أول المتطوعين.
تولَّى أحد القرويين، الذي يعيش أحفاده على بعد مئات الأميال، رعاية ثلاثة أطفال سوريين، وعلّمهم الصيد والسباحة. يُطلق عليه الأطفال اسم «الجد».
لكن لم يكن الأمر دائماً على هذا النحو. عندما جمع شوتز سكان القرية لأول مرة لشرح فكرته بشأن جلب السوريين، كان هناك الكثير من الارتياب.
قال ماركو سايدلت، الذي أصبح ابنه البالغ من العمر 11 عاماً، ويُدعى دافي، لديه فجأة ثلاثة زملاء سوريون في فصله المدرسي: «اعتقدت أنَّ الأمر لن ينجح. يعتنق السوريون ديناً مختلفاً، لن يتحدث أطفالنا اللغة الألمانية بطريقة صحيحة بعد الآن».
وذكر شوتز أنَّ آخرين شعروا بالقلق من أن يكون القادمون الجدد مثيري شغب أو لصوص.
حليمة طه، وزوجها فادي سيد أحمد، وأطفالهم الثلاثة من بين السوريين الذين انتقلوا إلى غوزلوف/ nytimes
حليمة طه، وزوجها فادي سيد أحمد، وأطفالهم الثلاثة من بين السوريين الذين انتقلوا إلى غوزلوف/ nytimes
على الجانب الآخر، كانت السورية حليمة طه مُتشكّكة أيضاً. قالت حليمة إنَّ أصدقاءها السوريين صُدموا عندما علموا أنَّها نُقلت بالحافلة مع عائلتها من برلين إلى مركز لطالبي اللجوء في شرق ألمانيا ثمَّ إلى قرية غولزوف في نهاية المطاف، قائلين لها في مكالمة هاتفية: «شرق المانيا، هل أنتِ مجنونة. هم لا يحبون الأجانب هناك. هذا المكان خطر».
لكن بعد ذلك، بذل الجانبان جهداً للتعايش، وتفاجأوا بمقدار إعجابهم ببعضهم البعض.
الألمان يستقبلون السوريين بالكعك والزهور والألعاب
حليمة طه هي أم لثلاثة أطفال تبلغ من العمر 32 عاماً، تتمتّع بشخصية مشرقة وتتحدث اللغة الألمانية بلكنة محلية لطيفة. تتذكَّر حليمة الزهور والألعاب، التي أحضرها رئيس البلدية معه عندما جاء للترحيب بعائلتها لأول مرة في منزلهم الجديد. كذلك، تبرَّع سكان القرية بعدد من الأشياء لمساعدة الأسرة في تجهيز شقتهم، من بينها أطباق ومجموعة من قرون الغزلان.
استقبل الآباء الألمان الأسر السورية بكعكة في أول أيام الدراسة، غير منتبهين أنَّهم صائمون لأنه شهر رمضان. سادت لحظات حرج وارتباك، ثم ضحك الجميع، وقطَّعت حليمة الكعكة.
الأطفال أحمد - برهان؛ حمزة ؛وكمالا، في انتظار الحافلة المدرسية مع زميلتهم الألمانية/ nytimes
الأطفال أحمد – برهان؛ حمزة ؛وكمالا، في انتظار الحافلة المدرسية مع زميلتهم الألمانية/ nytimes
طلبت حليمة من أطفالها منذ اليوم الأول إلقاء التحية على كل قروي في الشارع باللغة الألمانية. وقالت عن جهودها للاندماج: «لقد تعلمت من خلال المشاهدة».
اشترت العائلة كلباً من سلالة German shepherd، وتزرع الخضراوات في قطعة أرض مؤجرة، في اتباع لتقليد ألماني بعد الحرب. يذهب زوج حليمة، فادي، للصيد مثل بقية رجال القرية الآخرين.
وجد جميع المهاجرين البالغين السوريين الستة أعمالاً في الوقت الحالي. تعمل حليمة طه، الحاصلة على شهادة سورية في الصيدلة غير معترف بها في ألمانيا، في دار لرعاية المسنين، حيث تشغل واحدة من عدة وظائف شاغرة في بلد يعاني من شيخوخة سكانية متسارعة.
«السوريّون أصبحوا جزءاً مهماً من مجتمعنا»
متجر كباب سوري في وسط القرية أصبح هو المكان الأول لتناول الطعام في القرية/ nytimes
متجر كباب سوري في وسط القرية أصبح هو المكان الأول لتناول الطعام في القرية/ nytimes
قال غابي توماس، مدير مدرسة القرية، عن الأسر السورية لصحيفة نيويورك تايمز: «لقد أصبحوا جزءاً مهماً من مجتمعنا». برزت نقطة تحوّل عند احتجاج سكان القرية في أكتوبر/تشرين الأول 2015، بعد بضعة أشهر من وصول السوريين.
قاطع السكان الغاضبون أحد السياسيين الإقليميين عندما كان يحاول إقناعهم بإيواء العشرات من اللاجئين الشباب الذكور في صالة الألعاب الرياضية بالمدرسة.
فجأة، أخذت حليمة الميكروفون وقالت إنَّها أيضاً تشعر بالقلق إزاء الشباب، الذين سكنوا بجوار المدرسة وروضة الأطفال، وإزاء قدرة القرية على استيعاب مزيد من اللاجئين.
بعد ذلك، دعم عدد كبير من أكثر المرتابين حماسة الفكرة. قال ماركو سايدلت، الذي كان متشككاً للغاية قبل 4 سنوات، أثناء ذهابه لإحضار ابنه من المدرسة: «لم أكن أتوقع ذلك، لكنهم يندمجون داخل المجتمع على نحوٍ جيد للغاية».
التغلُّب على التحيّز
التغلُّب على التحيّز ضدك هو أمر صعب. يعرف سكان غولزوف ذلك مباشرةً. عندما سقط جدار برلين قبل 30 عاماً، فاز الألمان الشرقيون بالحرية والديمقراطية. لكنهم فقدوا وظائفهم، ومكانتهم الاجتماعية وتقريباً بلدهم بين عشية وضحاها. ينظر كثيرون الآن إلى إعادة التوحيد باعتباره استيلاءً غربياً فشل في الاعتراف بأي شيء كان يُميّز الحياة في الشرق الشيوعي، ناهيك عن القيم.
في أبريل 1945 ، قام الجيش السوفيتي بتحويل المدينة إلى أشبه بحطام في هجومه نحو عاصمة الرايخ/ nytimes
في أبريل 1945 ، قام الجيش السوفيتي بتحويل المدينة إلى أشبه بحطام في هجومه نحو عاصمة الرايخ/ nytimes
قالت كارينا كافيدوف، متقاعدة محلية، بمرارة: «لقد اختُزلت 40 عاماً من تاريخنا في جرائم وزارة أمن الدولة في ألمانيا الشرقية (Stasi)».
لهذا السبب يشعر كثيرون في غولزوف بالأسف حيال عدم معرفة سوى عدد قليل من الغربيين بسلسلة أفلام «أطفال غولزوف» الوثائقية، التي أرّخت حياة 18 طفلاً بدايةً من يومهم الأول في المدرسة في أغسطس/آب 1961 –أي بعد أسبوعين من بناء جدار برلين- حتى عام 2007. وقد رسمت تلك الأفلام صورة دقيقة للحياة في ظل الشيوعية أكثر من التصوّر الغربي السائد.
تم تتبع سيرة السيد برنهارد غودريان (إلى اليسار) و18 طفلاً آخراً منذ عام 1961 وحتى عام 2007/ nytimes
تم تتبع سيرة السيد برنهارد غودريان (إلى اليسار) و18 طفلاً آخراً منذ عام 1961 وحتى عام 2007/ nytimes
سيرة السيد برنهارد غودريان والصور الأرشيفية من الفيلم الوثائقي في متحف المدينة/ nytimes
سيرة السيد برنهارد غودريان والصور الأرشيفية من الفيلم الوثائقي في متحف المدينة/ nytimes
قال برنهارد غودريان، سائق جرّار متقاعد كان واحداً من الأطفال الذين ظهروا في الفيلم الوثائقي: «كنَّا نعيش ونحب ونحتفل مثل بقية الشعوب في أماكن أخرى».
إذا كشف أطفال غولزوف الأصليون زيف الأساطير الغربية عن الألمان الشرقيين، فإنَّ أطفال غولزوف الجُدّد قد كشفوا زيف الأساطير عن المهاجرين.
قواسم مشتركة بين أهل القرية والمهاجرين السوريين
خلال هذه العملية، اكتشف سكان القرية المحلّيون وجيرانهم السوريون الجدد أنَّ لديهم بعض القواسم المشتركة. إذ يشعر كلاهما بمحنة النزوح. كان لدى الألمان الشرقيون، بطريقة ما، تجربة هجرة خاصة بهم في بلدهم.
تتضح بعض أوجه التشابه بصورة لافتة للنظر. استقرَّ العديد من القرويين في غولزوف وهم أطفال، بعد أن فرّوا من الأراضي الألمانية في بولندا في نهاية الحرب العالمية الثانية. وكان من بينهم رئيس بلدية سابق.
رئيس البلدية شوتز:
رئيس البلدية شوتز: «يمر الأطفال السوريون في القرية بنفس تجربة الحياة التي مرَّ بها الأشخاص الأكبر سناً في القرية»/ nytimes
قال شوتز، رئيس البلدية الحالي: «يمر الأطفال السوريون في القرية بنفس تجربة الحياة التي مرَّ بها الأشخاص الأكبر سناً في القرية. كلاهما يعرف ما يبدو عليه الأمر عندما تنفجر قنبلة يدوية». وأشار إلى أنَّ كليهما ينتفض عند سماع صوت الألعاب النارية في معرض «دوار الشمس».
الأمور تسير على نحوٍ جيد
لا تحب حليمة طه أن تتحدث عن رحلتها، التي استغرقت عامين، عندما أخذت عائلتها من مدينة اللاذقية الساحلية السورية إلى غولزوف. لا يزال يراودها كوابيس في منامها حول رؤية عربة أطفال وزجاجة طفل رضيع تطفو فوق سطح مياه البحر المتوسط أثناء عبورها في زورق مكتظاً بالمهاجرين، فيما يُمثّل تذكيراً بأنَّ ثمة آخرين لم يحالفهم الحظ مثلما كان حليفاً لأسرتها.
سيد أحمد يساعد ابنه حمزة على ارتداء ملابس المدرسة/ nytimes
سيد أحمد يساعد ابنه حمزة على ارتداء ملابس المدرسة/ nytimes
قالت حليمة إنَّ عائلتها كانت ميسورة الحال في سوريا، لكنهم حالياً ممتنون ببساطة لكونهم على قيد الحياة. عندما تشتكي ابنتها في بعض الأحيان من اضطرارها إلى المساعدة في تنظيف المنزل لأنَّهم اعتادوا أن يكون لديهم عامل تنظيف، تمسك حليمة بها من كتفيها وتقول لها: «نحن حالياً لاجئون».
ومع ذلك، أشارت حليمة إلى أنَّ الأمور في مجملها تسير على نحوٍ جيد. تجيد كمالا (12 عاماً) وأخويها بورهان (11 عاماً) وحمزة (6 أعوام) اللغة الألمانية بطلاقة لدرجة أنَّهم يتشاجرون مع بعضهم البعض بالألمانية. قال غابي توماس، مدير المدرسة: «هذه هي المرحلة التي تعلم عندها أنَّهم اندمجوا تماماً». يستطيع أصدقاؤهم الألمان أيضاً العد من 1 إلى 10 باللغة العربية.
وتُخطط الأسرة بأكملها، في غضون 4 أعوام، للتقدُّم بطلب للحصول على الجنسية