المرأة سرُ السلمية

{clean_title}
الشريط الإخباري :  
ناصر جابي

 
فوجئ الجزائريون كما فوجئ العالم بالطابع السلمي الذي ظهر به حراكهم الشعبي. هم الذين كان منتظرا منهم كشعب أن يعيدوا إنتاج تجاربهم السابقة مع العنف الذي التصق بتاريخهم السياسي، كانت آخرها ما حصل خلال العشرية السوداء من أهوال.
عكس هذه الصورة تماما ظهر الجزائريون بسلمية كبيرة هذه المرة، وهم يجوبون شوارع مدنهم بالملايين، يحتجون ويطالبون منذ أكثر من سبعة أشهر، بالقطيعة مع نظامهم السياسي، الذي حاول أكثر من مرة التحرش بهذا الحراك لإخراجه عن سلميته باعتقال الناشطين والتضييق على المسيرات ـ خاصة في عاصمة البلاد- وببعض الاحتكاك مع المتظاهرين الذي بقي على العموم محدودا، ولم ينجح حتى الآن في توجيه الجزائريين صوب العنف.
حضور المرأة الكثيف في هذه المسيرات، يمكن أن يكون التفسير الأساسي لهذه السلمية، التي ميزت حراك الجزائريين، زيادة على ما استفادوا به من تجربتهم السابقة، مما حصل لهم في تسعينيات القرن الماضي، حين استطاعت مؤسسات الدولة الخشنة الاستفراد بالمتظاهرين، الذين خرجوا تلبية لنداء التيار الإسلامي الجذري، تيار استطاع بسهولة ركوب الحركات الاجتماعية التي اندلعت من بداية منتصف ثمانينيات القرن الماضي نتيجة تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي داخل المدن الكبرى تحديدا، التي دخلها الجزائريون بكثافة كبيرة في وقت قصير، بعد الهجرة الداخلية التي شهدتها جزائر ما بعد الاستقلال. سوسيولوجية وحتى ديموغرافية مسيرات التسعينيات يمكن أن تفسر إلى حد كبير كمية العنف الكبيرة التي رافقتها، فقد اقتصرت هذه الاحتجاجات في الغالب الأعم ـ باستثناء مسيرة أو اثنين نسوية ـ على شباب الأحياء الشعبية في المدن الكبرى والمتوسطة، التي كانت الحاضنة الأساسية للإسلام السياسي الجذري في الجزائر، على الرغم من الطابع الشعبي لهذا التيار السياسي الذي لم يسمح بالاختلاط داخل المسيرات، كما لم يسمح به داخل المسجد والاجتماع العام، رغم التأييد النسوي الشعبي الذي لقيه هذا التيار السياسي في بداية ظهوره على الأقل.
اسلام سياسي فشل فشلا ذريعا في إنتاج تحالفات سياسية، تقيه شر المواجهة مع السلطة، عندما حان وقت الحسم. فقد تنمرت قيادة التيار على الساحة السياسية الوطنية، ورفضت أن تتحالف حتى مع من كان الاقرب لها، رغم العروض التي قدمت لها من قبل أحزاب حاضرة سياسيا، كانت فاعلة سياسيا في تلك الفترة كجبهة القوى الاشتراكية، بقيادة زعيمها الوطني آيت أحمد حسين، وجبهة تحرير عبد الحميد مهري، كان يمكن أن يتم التحالف معها خلال هذه الفترة، التي اضطرب فيها أداء النظام السياسي الرسمي وفقد فيها جزء أساسي من قاعدته السياسية ـ الاجتماعية.
على العكس تماما من هذا المشهد السياسي خرج الجزائريون هذه المرة من دون أن ينتظروا دعوة من حزب أو شخصية سياسية، كما حصل في غالبية الحالات العربية المشابهة، خرجوا في كل مدنهم الكبيرة والمتوسطة، من أجل المطالب السياسية نفسها كعائلات بنسائها ورجالها، من كل الأوساط الاجتماعية والأعمار، بمن فيهم المريض والطفل الصغير والعجوز الكبيرة في السن. خرجت المحجبة والسافرة، كما تصفها اللغة المحافظة، الموظفة والطبيبة والمهندسة وربة البيت، لتجد كل القبول من المتظاهرين كما عكسته تلك الصورة الجميلة المتداولة على الوسائط الاجتماعية للرجل الملتحي، الذي يرفع مُكبر الصوت لشابة، من دون حجاب، في إحدى المسيرات، وهي تخطب في جموع المتظاهرين. صورة لم تكن متصورة تماما في جزائر التسعينيات، كدليل آخر على التحولات الاجتماعية النوعية التي عاشها المجتمع الجزائري، ليصبح أكثر قبولا بتنوعه السوسيو- ديموغرافي والسياسي. وصل إلى حد القبول داخل المسيرات الأسبوعية بمجموعات نسوية ـ فيمينيست – من بنات الفئات الوسطى، ذات الحضور الكبير كفئة اجتماعية داخل الحراك في العاصمة تحديدا والمدن الكبرى، رغم بعض التوجس والمناوشات المحدودة التي رافقت حضور المجموعة في المسيرات الأولى، سرعان ما اختفت لاحقا.

حضور المرأة الكثيف في هذه المسيرات، يمكن أن يكون التفسير الأساسي للسلمية التي ميزت حراك الجزائريين
كما ساهمت مسيرات الطالبات في كل المدن الجامعية في قبول المرأة داخل الحراك الشعبي بقوة، لما يتمتع به خروج الطالبات إلى الفضاء العام من شرعية حتى لدى القوى الاجتماعية المحافظة، التي كانت قد فاوضت بناتها لقبول دخولها الجامعة خروجها لاحقا إلى الفضاء العام، بشرط ارتداء الحجاب. مقايضة تمت أكثر من ثلاثة عقود قبل الانطلاق، مقايضة قبلت بها البنات الجزائريات كقاعدة عامة، كما عكسته ظاهرة انتشار الحجاب بداية من منتصف الثمانينيات، بعد غزو البنات للجامعات في مدن صغيرة ومتوسطة، انتشر فيها التعليم العالي بسرعة، لم يكن فيها حضور المرأة في الفضاء العام مقبولا بهذه الكثافة الكبيرة في سن كانت فيه هؤلاء البنات، منذ سنوات قليلة فقط، على أبواب الزواج والإنجاب. دليل آخر على الانتقال الديموغرافي الذي أنجزته الجزائر بسرعة، في انتظار الانتقال السياسي المتعثر.
انتقال ديموغرافي سريع تقول عنه الدراسات المتخصصة إنه يتميز بسرعة وتذبذب، مقارنة حتى بالحالات المغاربية المشابهة، هو الذي قد يكون وراء ما يميز سياسيا الحالة الجزائرية، كما عبر عنه هذا الحراك السياسي بالشكل والزخم، الذي ظهر به بشكل غير متوقع. حراك حضرت داخله المرأة بقوة، كما حضرت فيه الفئات الوسطى وبناتها بشكل لافت، زيادة على الفئات الشعبية التي كانت السباقة تاريخيا، في التعبير عن تذمرها بأشكال أكثر اقتصادية واجتماعية، غابت تماما هذه المرة، بعد قرار المتظاهرين – البعض قد يفسره بسيطرة بورجوازية صغيرة على الحراك – بأنهم أمام لحظة سياسية تاريخية فارقة، لا بد أن يركزوا عليها، بدل المطالب الاقتصادية ـ الاجتماعية التقليدية التي تتميز بتفاوضية كبيرة في الحالة الريعية الجزائرية.
رغم أن المرأة الجزائرية بقوة حضورها داخل الحراك الشعبي، ما زالت مُغيبة داخل الحزب السياسي والنقابة المهنية، مع حضور نسبي داخل الجمعيات، رغم تأهيلها المهني العالي، الذي كان يفترض أن يمنحها حضورا متميزا كنخبة مجتمعية فعلية على رأس مراكز القرار، تعيينا وانتخابا، امرأة حاضرة بقوة داخل فئات مهنية مؤهلة على غرار الطب والمحاماة والقضاء والصحافة والتعليم بمختلف أطواره، لدرجة أننا عندما نتكلم عن مسيرات القضاة أو المحامين أو الصحافيين كفعالية من فعاليات الحراك يكون الأجدر بنا الكلام بصيغة التأنيث، لأن نسبة عالية جدا من المشاركات في هذه المسيرات هن من بنات حواء، كتحصيل حاصل للتأنيث الكبير الذي تعرفه هذه المهن جزائريا، مانحا هذه السلمية الكبيرة لحراك الشعب الجزائري.
© جميع الحقوق محفوظة لوكالة الشريط الإخبارية 2024
تصميم و تطوير
Update cookies preferences