رواية خُسوف بَدر الدين
الشريط الإخباري :
رواية خُسوف بَدر الدين
باسم خندقجي
(فواصل رقص صامت)
سليم النجار
توطئة
باسم خندقجي كاتب وأسير فلسطيني، من مواليد محافظة نابلس عام ١٩٨٣،
درس في جامعة النجاح الوطنية في قسم الصحافة والإعلام، اعتقل من قبل قوات الإحتلال الإسرائيلي في"٢" تشرين الأول نوفمبر العام ٢٠٠٤ وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة.
بدأ باسم رحلة الكتابة داخل السجن من خلال كتابته (مسودات عاشق وطن) وهي عبارة عن عشر مقالات تحكي عن الهم الفلسطيني وكذلك (وهكذا تحتضر الحياة)، وهي تعبر عن تجربة الأسير الفلسطيني داخل السجون وهمه اليومي.
لقد استطاع باسم أن يحوّل من سجنه إلى غرفة عمليات ثقافية يُدير منها كل مشاريعه الفكرية والأدبية من خلال نشر كتبه وإعداد حفلات التوقيع لها، والإشراف على "صندوق الأسير لدعم أدب الأسرى"، الذي أسسه لدعم إبداعات الأسرى داخل السجون.
تبرز التجربة الروائية للكاتب باسم خندقجي، كتجربة خاصة يبني بها كل أزمنة الواقع الإسلامي، ويعطيه ما يستحقه من عناية أدبية وفنية، تركِّز على سبب أفول الحضارات، وضياع الأمصار والدول والإيالات، بعد أن تذهب بريحها كل الصراعات والفتن والحروب.
وإذا كانت هذه الوقائع التراجيدية أساس البناء التراجيدي لروايته "خُسوف بَدرالدين"٠ وكانت خلفياتها مُحركة بعوامل تاريخية تقترب من السياسي، للكتابة عن حالة ووضعية الأمم، وحالات الشعوب، فتمثل العلامة البارزة في فعل الكتابة مستوحاة من التاريخ، ومن الاسطورة، ومن الوقائع والأحداث، فإن كتابة هذه الوقائع تظل موسوعة بعمق البحث والتقصي عن العناصر التي بها يريد أن يبني هذه التراجيديات، وكتابتها بالشخصيات المتألفة، والمتناقضة، حيث تكون الفكرة المحورية في الصراع قائمة على سؤال جوهري، هو لماذا هذا السقوط المتكرر للحضارة الإسلامية؟ وما أسباب ذلك؟
هذا ما نراه موضوعاً بارزا في رواية "خُسوف بَدر الدين"، حيث يتخذ الجواب على هذه الأسئلة مناحي جديدة في التجربة الكتابية عند باسم خندقجي، حين ستبنى عن وعي تاريخي وفني كتابة الرواية، التي تقدم أسباب كل هذه السقوط المدوي للحضارة الإسلامية، وكأنه يعرض الأجوبة المقنعة المدعومة بالحجة والدليل، على أن ما أصاب الأمة الأسلامية
في هذه الرواية يختار باسم خندقجي شخصية خُسوف بَدر الدين التي لعبت دوراً هاماً في الحقبة العثمانية، ودوره الفكري والأجتماعي، ومواقفه اتجاه هذه الحقبة،(- مولاي الأمير٠٠ أرى أنَّ ما حدث هذا الصباح من محارق ومذابح لا يليق بشريعتنا وعدل ديننا وسنَّة نبينا ٠٠ فبأي حق نسبي ونستبيح ونحرق كل ما تقع عليه سيوفنا؟ أليست هذه البلاد لنا فلماذا نمزقها هكذا بوحشية؟ ص٢٦٦).
كما يوظف باسم خندقجي في روايته "خُسوف بَدر الدين" ما يمكن ان نطلق عليه كتابته الرواية الجديدة، التي يرى الكثير من النقاد أنها رواية بوليسية على مستوى المواضيع والطرق والتركيبات، وهم يجدون في الرواية الجديدة "جوا" مليئا بالأسرار وأحيانا بالقلق يذكرنا بجو الرواية البوليسية، (- لقد علمت من عيوني التي أرسلتها لمراقبة الجيش العثماني، أنَّ قوامه يقارب الخمسة آلاف جندي ما بين فارس وراجل ٠٠ الجيد في هذه الأخبار أنَّ الجيش ليس مزودًا بآلات الحصار وهذا ما يشير إلى نية قائده شن معركة خاطفة ص٣٠٩). ليس من شك في أن رواية " خُسوف بَدر الدين " تكون في أغلب الاحيان مليئة بالقلق وهذا أمر طبيعي فهي رواية التباس وشك وعدم يقين،(وانت ستقوم بك الدنيا أيّها المتجلي بدرًا في سماء تبريز، بعد أن أغدق عليك أميرها ببيته القديم الواقع غرب تبريز لتقيم فيه زاوية نورك، فهل ستقَنع وترضى؟ ١٦٥).
قلنا أن الرواية الجديدة تنتظم في تنويعات كما لو كانت تركيبا موسيقيا أو شعريا، أو كما لو كانت لوحة تصويرية لا موضوعية، كما فعل الخندقجي عندما استحضر شخصية مكنونة الجارية، التي لعبت هي الأخرى دور السارد في الرواية، وقدمت تنويعات (سردية) مختلفة وأخرى خالية، فالسرد كالموضوع قابل للتغيير في هذه الرواية مما يجعلنا ننتقل من مستوى معين للسرد الى مستوى آخر بطفرات فجائية وبحركة تثير الدوار، (سألها وهو يُقبل جبينها كما لو أنه سمع همسها:
- ألن تغني لي الآن؟ ص١٦)، وفي مقطع سردي آخر تقول مكنونة، ( - يجب أن أعود إلى القصر في أقرب وقت كي أغفو ليرتاح صوتي٠٠ فهذه الليلة أوَّل ليالي والغناء والسمر٠٠ إلاّ إذا أردتَ أن يكتشفوا أمر تسلُلي إليك فأفقد صوتي للأبد! ص١٧)، وفي مقطع سردي ثالث،( - حسنًا سأغني لك، فأنا أداعبك يا نور القلب ومنارة الروح، سأبقى معك حتى تطرب ويثمل صوتي قلبك ص١٧).
إنه يحمل شخصية مثخنة بالإحباط ممزقة بين الجذب والطرد، إذ حتى الانتقام الذي يبدو نذر ما تبقى من حياته لإنجازه، يقوم كردة فعل ضد الإثارة التي تسلطها عليه افكاره، لخُسوف بَدر الدين فيسرد حكايته لتجوب كثبان الأزمان تيهاً نحو الذكريات يقول السارد: (وفي ظلِّ هذه الأحاديث اعتنق الصمت مصغيًا إلى تلاميذه دون أن يعقّب بأدنى كلمة، حيث كان عاجزًا عن وعظ تلاميذه بما كان يُسرٌ به إلى طورة في خلوتهما ص٢٠٩).
نستشف من حديث السارد عن تمزق ذات البطل (جراء التنافر بين الجاذبية وقوة الطرد المركزي) بين خُسوف بَدر الدين ومكنونة، أن ويلات الحرب تؤدي إلى صرف الإنسان عن الواقع والحاضر فتعود به إلى الخيال والماضي والبدائية،(لقد كانت تبربز ضآلتها مقارنة بالقاهرة، تعجُ بالمدارس والزوايا والجوامع الصوفية، التي انجذب إليها بدر بأصداء الهواتف التي كانت ولم تزل تنتابه ص١٤٧).
بعد أن أحرق السارد ما تيسر من المحطات التاريخية - في شكل انزياحه إلى السرد الباطني - انتقل إلى الحديث عن اضطراب يشبه كابوسا غير مفصوح عن سببه، والذي جعله يقص علينا أحداثا غيبية تقع في أفكاره، والمستقبل القريب، لا محالة (أي نور يا هذا؟! أما زلت تعتقد أنَّك في زاويتك فيه مريدوك وأتباعك فقط، بل الأفاقون والمدعون النور باسمك ص٣٢٢).
ندخل إلى ركن آخر من أركان الكتابة، وهي أن تظاهر السارد بالمجازفة السردية، (وهو المقبل على عود المشنقة التي نصبت في ميدان أدرنة الكببر أمام حشد هائل من الناس، جاؤوا ليشهدوا معجزة قد تسطع من دمه أو مرقَّعته لتنجيه من الموت المحدق به، رثَّ الهيئة بمرقَّعة بالية، أشعث الشعر واللحية كالح الوجه، عيناه زائغتان، نحيلاً نحول الموت ص٣٣٣).
إن هذا التقابل، من الزواية اللاواعية لدى السارد، يشير إلى ما يتقاسم نفسه بين الحكي الباطني والحكي النمطي حتى على مستوى الزمان والفضاء النصيين، نجد أن السرد الباطني قد سبق النمطي، وذلك لأن السارد قد بدأ يتخيل أحداث شنق خُسوف بَدر الدين قبل أن يدخل إلى حبل المشنقة٠
رواية "خُسوف بَدر الدين" دمرت الشخصية التقليدية والحقيقة أن هذا التدمير مرتبط بأزمة الفرد المعاصر، فما بالك بالأسير الفلسطيني الذي يقبع في السجن، ولم بعد هنالك معنى إنساني لوجوده في هذا المعتقل، كما إنه ليس مفتاح لأوهام تاريخية التي صنعت هذا المعتقل الذي أصبح بطله الأزلي.
رواية "خُسوف بَدر الدين" لا تطالب القارئ بإندماج بل بنوع من المشاركة، أن يشارك في عملية خلق معينة وفي أن بخترع بدوره الأثر الكتابي والعالم.