ماذا أصاب الجزائريين؟
الشريط الإخباري :
توفيق رباحي
هناك حرب إبادة معنوية على منصات التواصل الاجتماعي، يشنها جزائريون على جزائريين، بداعي الفرقة السياسية. كلما اقتربت عقارب الساعة من موعد الانتخابات الرئاسية، وكلما عبّر قائد أركان الجيش، الفريق أحمد قايد صالح، عن تصميم أكثر في الذهاب إلى هذه الانتخابات، ازدادت منصات الإعلام الاجتماعي اشتعالا بقاموس حافل بعبارات الشتم والتخوين والتهديد.
أزلام فرنسا، عملاء الخارج، خونة، «زواف»، «حَرْكَى»، تغريبيون.. إلى غير ذلك من العبارات والاتهامات الخطيرة التي، إلى وقت غير بعيد، كان الجزائري يفكر عدّة مرات قبل أن يتلفظ بها حتى في المجالس الضيّقة. كان ذلك بسبب ما تحمله تلك العبارات من خطورة، من جهة، وما قد يترتب عن إطلاقها من عواقب قد تكون وخيمة، من جهة أخرى.
فماذا أصاب فئة من الجزائريين حتى استسهلوا هذا القاموس المشين؟
ما نحن فيه اليوم هو، في نسبة كبيرة منه، ثمرة من ثمرات الممارسة السياسية التي أرساها المخلوع عبد العزيز بوتفليقة، وحوَّلها إلى ثروة قومية في مجتمع كان أصلا يجد صعوبة في قبول الاختلاف وعاجزاً عن إرساء ثقافة الحوار.
لن ينسى الجزائريون بسهولة الوزير (المسجون حاليا) عمارة بن يونس، وهو يقول ملء فيه في خطاب انتخابي (نقلته القنوات التلفزيونية) لصالح المخلوع: «يلعن بو لي ما يحبناش» (اللعنة هنا موجهة إلى خصوم سيّده بوتفليقة). ولن يكون من السهل أيضا التجاوز عن الأمين العام السابق للاتحاد العام للعمال الجزائريين، عبد المجيد سيدي السعيد، وهو يكرر أن «اللي ما يحبش بوتفليقة ماهوش رجل» (وقصده هنا الفحولة وليس فقط الجنس البشري، والإهانة موجهة إلى من اختلفوا مع المخلوع). ولن ينسى الجزائريون البذاءات التي كانت تخرج على لسان عبد المالك سلال، رئيس الحكومة في عهد المخلوع، وهو يعتقد أنه خفيف الظل ومرح الروح.
وسيحفظ التاريخ مكالمة هاتفية جرى تسريبها، يتحدث فيها سلال وعلي حداد (ممول عصابة بوتفليقة) عن استعمال الكلاشنيكوف والذخيرة ضد المتظاهرين إذا ما اعترضوا موكب أحدهما وهو في الطريق إلى حملة انتخابية بإحدى مدن الهضاب العليا الوسطى (مع بداية حراك 22 فبراير).
عندما يُراكِم مجتمع سياسي (وغير سياسي)، بشكل يومي وطيلة عشرين عاما، مثل هذه العقلية واللغة «الشوارعية»، لا غرابة أن تتحوّل منصات التواصل الاجتماعي، في نهاية المطاف، إلى حلبة لخطاب أسوأ وأخطر وأقذر.
عندما يُراكِم مجتمع سياسي (وغير سياسي)، بشكل يومي وطيلة عشرين عاما، مثل هذه العقلية واللغة «الشوارعية»، لا غرابة أن تتحوّل منصات التواصل الاجتماعي، في نهاية المطاف، إلى حلبة لخطاب أسوأ وأخطر وأقذر
بعض اللغة المستعملة في التهديد والتخوين والشتم لا تقل أذًى وألمًا عن الرصاص. ناهيك عن أنها مرفوضة، هي تترك جروحا وخدوشا من الصعب مداواتها.
لا شيء يبرر كل هذا الأذى المعنوي في مجتمع لم يُشفَ بعدُ من جروح وأوجاع الحرب الأهلية في العقد قبل الماضي. تلك الحرب التي وضعت أسسها تقسيمات تشبه تقسيمات اليوم، لكن على أسس دينية وإيمانية. العودة إلى لغة مشابهة، وإن ذات مضمون قومي وطني، وصفةٌ جيدة لإعادة إنتاج مسببات تلك الحرب القذرة. مرة أخرى، لا توجد قضية تستحق هذه الضريبة. ومن الجنون تغذية هذا الخطاب وهذه الأحقاد لأغراض سياسية، حتى وإن كان الغطاء ـ الحجة ـ الأكبر: الوطن. الأوطان بحاجة إلى عقلاء يحمونها، لا حمقى يحرقونها بحماقاتهم.
إذا كان الهدف الأسمى هو أن يفرض قائد الجيش انتخابات رئاسية تفرز رئيسا كما يريده، فالسلاح المستعمل أكبر من متطلبات المعركة. والنتيجة النهائية ستكون عرجاء: نكسب رجلا يملأ كرسي الرئاسة ونخسر مجتمعا.
وإذا كان الهدف القضاء على من يسميهم قايد صالح «رؤوس العصابة» وأتباعها، اجتماعيا بعد أن قضى عليها قضائيا، فالسلاح المستعمل، مرة أخرى، أكبر من المعركة المطلوبة، والكلفة تفوق حدود المأمول.
لسوء حظ الجزائر أن الذين يقودون هذه الحرب الافتراضية محسوبون على النخبة التي من المفروض أن يكون دورها إطفائيا، ومسؤوليتها في الاتجاه الآخر تماما لِما هو منفشٍ اليوم من بذاءات وتهديد. والحال اليوم أنه طريق ذو اتجاهين: «نُخب» تُنتج الإشاعات والافتراءات والأقاويل، ودهماء تستهلك بمتعة وتطلب المزيد.
بيد أن مصيبة الجزائر هي بالذات في نُخَبها، والتاريخ الحديث خير شاهد على أن نُخَبًا مماثلة تتحمل جزءا كبيرا من مسؤولية الفتنة التي ألمّت بالبلاد في تسعينيات القرن الماضي وأُريقت فيها أنهار من الدماء والدموع. ما كان للجنرال خالد نزار (الهارب من العدالة اليوم) أن يقود البلاد إلى تلك الهاوية لولا نُخب زيّنت له أفعاله وشجعته عليها. يكفي نزار وأفعاله عبرة لو أراد الجزائريون أن يتعلموا.