الفَلْق والفَلَقُ
الشريط الإخباري :
حين كنّا صبية كنّا نذهب إلى مؤدّب القرية لنحفظ القرآن، ونتعلم الكتابة وكنّا ننال في الأثناء نصيبا من الضرب بواسطة الفلقة. الفلقة هي نوع من الضرب على أكفّ الأرجل العارية باستعمال إطار من الخشب بفتحتين تدخل فيهما ساقانا معا، ونحن ملقون على الأرض، نصيح ولا من مجيب، نصيح قبل الضرب وبعده وذنبنا أنّنا قرأنا بالخطأ آية، أو لم نكتب جيّدا في لوحنا المحفوظ، أو ربّما كان الذنب غير مرتبط لا بالقراءة ولا بالكتابة، بل لأنّا سرقنا بسمة حراما في بيت الله الحرام.
الفلْق في العربية يعني الشقّ فمن معانيها جذع النخلة إذ يشقّ اثنين ومنها فلق الرأس أي شجّه، ويقال في رجله فلوق أي شقوق؛ ولا أعلم هل سمّيت الفلقة كذلك لأنّ فيها شقّين أو لأنّها تحدث في الرجل شقوقا وفلوقا. قرأت أنّ الفلقة جاءتنا، بما هي أداة تعذيب، من أوروبا القرون الوسطى هناك أيضا كانوا يفلقون الأرجل لكنّ السّادة كانوا يفعلون ذلك مع عبيدهم، والحقّ أنّا لم نكن ونحن نقلق عند سيّدي المؤدّب من السادة، ولا كنّا من العبيد، صحيح أنّا كنّا نناديه سيّدي لكنّ سيادة التقدير والتبجيل وليست سيادة العبوديّة. وحتى لو رددّنا مع المردّدين تلك العبارة التي لا أهواها: من علمني حرفا صرت له عبدا، فإنّنا لا نعني بالتأكيد أن نكون عبيدا لمن علمنا ولماذا نكون له عبيدا: نحن طرف في لعبة تعليمية تشاركيّة لا فضل فيها لمعلّم على متعلّم، بل الفضل في التفاعل البنّاء.
كانت الفلقة جزءا من الكُتَّاب مثلها مثل اللوحة والحبر المحليّ الصنع المستخرج من الصوف. بعض أصدقائي يتذكّرون تلك الفترة بشيء من الحنين، لكنّي لا أشاركهم حنينهم، فقد كنت أراني مسجونا مع شيخ جاوز السبعين، يغضب لأدنى الأشياء وهو وإن كان يخاف الله فإنّه لا يرحمنا، جعلنا نكره القراءة والكتابة ونراها واجبا ثقيلا. العقاب المرافق للتعليم كان عادة.. فحين انتقلنا إلى المدرسة لم نجد الفلقة وجدنا عصا كبيرة يتأبطها المعلّم ويسمّيها مسعودة، إيّ سعد فيها هي كلّ النحس ربّما كانت مسعودة بالنسبة إليه لأنّها جزء من هيبته وكانت من أسماء الأضداد عندنا. العصا تفنّن بها المعلمون كانوا يعدون الضرب بها في أيادينا وربّما في أصابعنا بالعشرات. واليوم أتعجّب ممّن ينادي بعودة العصا اعتقادا منه أنّ العصا تؤدّب، وأنّه بغيابها غاب الأدب.. مساكين أولئك الذين لا يفكرون خارج الأنساق التربويّة البائدة، ولا يؤمنون بتعليم دون عقاب. حين صرنا «رجالا» و»نساء» شفعت فينا الرجولة وباسمها ابتعدنا عن العصا، لم تبعدنا القيمة، بل «البلوغ» و»الرشد» وكأنّنا صرنا حاكمينا أمرنا وكان الحكم خارج دائرتنا.
كثيرا ما يبحث المعلمون عن أخلاق الاعتراف بين من علموهم؛ لكنّ أخلاق الاعتراف هي جنى غرس، إن كان طيبا فالثمرة ستكون طيبة، وإن كان الغرس شوكا فالثمرة ستكون جراحا. الحقّ أنّ العلاقة بين المعلّم والمتعلّم جاوزت من عصور عديدة الربوة والوادي، على الربوة كان يجلس المعلّم معتدّا برتبته آمرا ناهيا، يعتقد أنّه هو من يملك المعرفة، ويفتح الأبواب، والحقّ أنّ المعرفة غادرت منذ عقود مجال الفرد المعلّم فصرت تجدها بإشارة من محرّك من المحركات في الإنترنت، تضع بين يديك كلّ ما تريده ومن غير وساطة معلّم. المعلم روح لن تجدها في المحرك العنكبوتي، هو هدي منهجي وعلمي هو حركة تصل المتعلم بغيره وصلا حسنا.
كانت الفلقة آلة تكسر من أراد من الصبية أن ينتصر على مؤدبه بالضحك عليه وعلى عقده وضعفه: نعم كان الصغار يتفطنون إلى ضعف المؤدّب فيثور ويلجأ إلى الفلق وينسى الشيخ أنّه كان أبا ولم يتعلّم أن يكون مرّة رحيما.
المدرسة التي حافظت لسوء الحظ على كسوتها القديمة، لا تراها تسعى إلاّ سعيا بطيئا كي تجدّد في إهابها. لم تعد العلاقة بين المعلّم والمتعلّم جبرية، بل هي تميل إلى القدريّة، التي يخلق فيها المتعلم أنشطته، وعلى المعلم أن يساعده على خلقه. ما يزال بعض المدرسين يمثلون دور المعلم الذي يعرض دوره بعد تلقين وحفظ دور طويل مقلق، ليس للجمهور فيه حظّ الحركة والكلام والنقاش، عليه أن يعرض دوره حرفيّا مثلما عرضه أمس والسنة السابقة، والعقد الأسبق، ثمّ بعد أن يدقّ الجرس يخرج وقد أكمل العرض. في ذلك العرض يمكن أن يصاب الممثّل بالقهر حين لا يتابعه الجمهور، ويمكن أن يشعر الجمهور بالقهر لأنّه دخل العرض الخاطئ في الزمن الخاطئ: أن لا يتقن الممثل صناعة المشهديّة الجاذبة ويصبح اللباس والصوت وتفاصيل الوجه هي النصّ، الذي عليه مدار عناية المتفرّج. يكتشف الممثّل في لحظة مأساويّة أنّ العلاقة ليست طيبة مع من يدرّس، وأنّ عليه أن يثأر لنفسه الإنسانة من إنسان يريد أن يجعله «أراجوزا» يبحث عن الفلقة فلا يجدها؛ لقد ولّى زمنها. فالقوانين تمنعها والأسرة ترفضها ولم يعد الوليّ يقول للأب «حاسبني بجلده» ولم يعد التلميذ يقول لمعلمه «أنا اللحم وأنت السكين» بات المعلم مطاردا: يطارد وضعه الذي لا يعجبه فغالبا ما يدرّس شيئا لا يرضاه ويدرّس شخصا لا يرضيه ويسعى في الآن نفسه إلى أن يمثل دور من يرضي خارجه وأوّله النظام التعليمي نفسه. كانت الفلقة تقوم بدور التوازن المختلّ بتخويف الروح الثائرة، أو غير المنصاعة للنظام الذي يمثله المؤدّب. هناك دائما توازن مختلّ يسعى المعلّم الناجح إلى تعديله.
البناء المختلّ يبدأ نفسيّا وينتهي نفسيّا. يبدأ نفسيّا لأنّ هناك دائما فرقا في استعدادات المعلم النفسيّة، واستعدادات من يعلّمه يصنعها الفارق في السنّ الذي لا يكون خاليا من الفارق في الثقافة: فالمدرّس الأربعيني أو الخمسيني، تطلعاته التي من الممكن أن يكون بناها على تجربته الخاصّة الماضية حين كان تلميذا، أو الراهنة التي تناسب سنّه: لا يمكن للمعلّم أن ينجح إن لم يجرّب التموضع المطلوب أي أن يكون موضع المتعلم. أن تجرب كيف تكون متعلما ليس أمرا هينا، إذ يمكن وأنت تضع نفسك موضع المتعلم أن تكون شخصا آخر بعيدا عنه. عليك أن تمثّل دور من يفهم قبل أن تمثّل دور من يُفهم: حتّى تفهمني الدرس عليك أن تَفهمني أنا: كيف لي أن أفهمك وما طاقتي ما قدرتي وما تفاعلي النفسي مع ما تقدّم؟ أنا أعتقد أنّ أكثر المعلمين على وجه الأرض نجاحا، رغم المشقات هي الأمّ: إنّها تتعامل مع رضيع لا ينطق، ورغم ذلك هي تعرف ما يريد ومتى يريد؛ متى يجوع ومتى يلعب ومتى ينام ومتى يستيقظ ومتى يكون في جوفه إسهال وكيف يبرأ منه. لا تتيح لك المدرسة الكلاسيكية أن ترافق المتعلّم حتّى تفهمه دون أن يتكلم: متى يريد ومتى لا يريد، متى ينتصر وهو منكسر على نفسه وعلى شهواته وعلى أهوائه، بل متى ينتصر عليك أنت.
كانت الفلقة آلة تكسر من أراد من الصبية أن ينتصر على مؤدبه بالضحك عليه وعلى عقده وضعفه: نعم كان الصغار يتفطنون إلى ضعف المؤدّب فيثور ويلجأ إلى الفلق وينسى الشيخ أنّه كان أبا ولم يتعلّم أن يكون مرّة رحيما. يقرأ المؤدّب ومعه نكرّر (قل أعوذ بربّ الفلق) ولا نعرف ما معنى (الفَلق) نحن الذين نحتاج بالقوة أن نعوذ بالله وبكلّ من كان بنا رحيما؛ لا نعرف ما الفلق وربّما تداخلت الكلمات بين الفلْق والفلَق، أي بين شقّ النخلة أو الساق وانشقاق الضياء من الظلمة مع فجر نحن ما نزال في ظلمة نتبيّن بالعَنَتِ نورَه..
لماذا لا أريد أن أصدّق أنّ الفلق في تفسير بعض المفسرين جُبّ في جهنّم.. كنّا نخشى جهنّم ونراها عقابا أكبر من عقاب الفلْقة، غير أنّ ما يطمئننا أنّه عقاب لا يكون إلاّ حين نموت.. لكن ألا يكفي لطفل في سنّه ذاك أن يفكّر وهو ابن ليلته في موته؟ ألا يكفيه وهو يشتهي الجنة أن يفرّ بالسرد إلى جحيمه؟ لم يكن سيدي المؤدّب ليشرح لنا هذه المعاني كان همّه أن نعيد.. أن نجترّ.. أن لا نخطئ في كلام الله.. أمّا معانيه فأمامنا عمر كامل لنعرفها.
توفيق قريرة
أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية