تناقض الحضارة

{clean_title}
الشريط الإخباري :  
ابراهيم عبدالمجيد
بينما أفكر في قضية أدبية تأخذني ولو قليلا، عن الآلام مما يحدث في غزة من إبادة جماعية لأهلها. أخذني التفكير إلى الفلسفة أكثر من الأدب. قفز إلى روحي تناقض الحضارة بين الحرية والاستغلال والقمع.
كنت أحاول أن أبعد الجن الواقف أمامي يرفع لافتة بالحقيقة التي يتغافل عنها الحكام العرب، وهي أن ما يحدث في غزة بعد أن يتم، سينتقل إلى الضفة الغربية، ثم ينتقل إلى الدول العربية، وسيجد الصهاينة لها تفسيرا واحدا، وهو أن فلسطين هي أرض الميعاد، وها هو الرب «يَهوَه» أعطاهم القوة ليزيحوا أهل المنطقة. سيتغافلون عن أكاذيبهم وعن الدعم العنصري من أمريكا وغيرها، وسيلوذون بالأسطورة التي تبرر لهم ما يفعلون، رغم ما يشيعونه في العالم من أنهم دولة علمانية ديمقراطية.
توقفت عن حضور أكثر من ندوة، ثم ذهبت إلى ندوتين بعد أن طالت الحرب وتجاوزت ستين يوما الآن، لكنني حين أعود إلى الوحدة في البيت يلفني الحزن، وأكره اليوم الذي عشت فيه لأرى ما يحدث كأنه فيلم لا يعنينا.. وحين أتحدث بلغة الجماعة فلا أعني الشعوب، فالشعوب العربية في أكثرها مجبر على الصمت، أو يعيش حالة مؤلمة من الصراعات الطائفية والسياسية.

أرى حولي الحياة الأدبية نشيطة، فالمعارض العربية تتم، والندوات بالمئات في مصر وغيرها، والإعلانات عن كتب جديدة، وحفلات الغناء والموسيقى، وحتى الخلافات التافهة بين بعض الكتاب. أحسست مع تقدم الأيام وزيادة المجازر لأهل غزة، أنه لا شيء في هذا العالم يستحق أن يعاش. ولم يعد يكفيني شعر محمود درويش، أو سميح القاسم، أو أحمد دحبور، أو غيرهم، لأرى أنه على هذه الأرض ما يستحق الحياة. أتحدث عن نفسي أنا في مصر وليس عن أهل فلسطين الذين يثبتون لنا كل يوم، أنه على هذه الأرض ما يستحق الحياة. أفكر كيف صار الكذب عَلَما، أو أعلاما ترفعها دول، وأعني حكامها، مثل أمريكا وألمانيا وفرنسا وإنكلترا. هذه الدول التي صدمتنا حتى تساءل الكثيرون أو تشَّفوا في التنويريين من المثقفين قائلين «اشربوا». هذه هي الحضارات التي تتحدثون عن الحريات فيها والديمقراطية.
يماهي القائلون بذلك بين الحكام والشعوب كما يماهون بينهما في بلادنا، والأمر طبعا هناك مختلف، فالشعوب هناك لا تتخلى عما حققته من حريات وديمقراطية، لكن الحكومات ترى ذلك عزيزا يجب أن لا يتحقق للدول الضعيفة. من لا يعرف ذلك طبيعي أن يُصدم أو يندهش من أن هذه البلاد التي انتجت مفكرين عظماء نادوا بالحرية، هي نفسها التي تساعد الدولة الصهيونية في مجازرها. الدول التي أنتجت الفلاسفة الذين غيروا الفكر في العالم، وغيروا العالم في بلادهم بأفكارهم التي حملتها الثورات هناك، تجعلني أتساءل هل حقا كان هؤلاء الفلاسفة هناك. هل وُلِد أفلاطون وأرسطو وهيغل وماركس وسبينوزا وجون ستيوارت مل وفولتير وجان جاك روسو وغيرهم بالعشرات هناك حقا؟ كيف غيروا أوضاع بلادهم، بينما لم تتغير نظرة حكام بلادهم إلى البلاد الأخرى وشعوبها. وهنا يقفز إلى روحي تناقض الحضارة بين الحرية، والاستغلال والقمع. فهذه الدول رغم ما ظهر فيها من فلاسفة بحثوا كيف تكون الحرية، هي التي جعلت استعمار غيرها شعارا وعملا، فاحتلت بلادا كثيرة في افريقيا وآسيا ونهبتها لصالح شعوبها، في الوقت الذي كانت فيه الثورات هناك ضد الديكتاتورية.

استطاعت الثورات تحقيق مكاسب عظيمة، لكن لم تتوقف هذه الدول عن الاستعمار إلا مرغمة ومضطرة. الأمثلة كثيرة، ففرنسا لم تحتل الجزائر وتونس والمغرب وسوريا قبل الثورة الفرنسية، بل بعدها. والأمر نفسه يمكن قوله عن إنكلترا وإيطاليا وألمانيا وأمريكا. وجهان لهذه الدول. وجه يخص حياة شعوبها، ووجه يخص علاقتها بغيرها من الدول. وهذا هو تناقض الحضارات الذي أعنيه. أقوله حتى لا نرتبك ونكفر بما تعلمناه من دروس الحرية.

قانون الحضارات قائم على غزو المجال الحيوي لما حولها من الدول، يتسع المجال الحيوي بقوة الدولة الجديدة وضعف من حولها. هذا القانون الذي تغير الآن ولم تعد الدول العظمى في حاجة إلى حروب مباشرة، فالسيطرة تتم من بعيد بالتكنولوجيا والمال.

الأمر لم يشمل هذه الدول فقط ، فعلى طول التاريخ فعلت الدول الكبرى ذلك. الفراعنة المصريون لم يتوقفوا عند حدود مصر، بل وصلوا إلى منابع النيل، وإلى الشمال حيث أرض كنعان. واليونانيون مع الإسكندر الأكبر جاءوا من أوروبا إلى آسيا وافريقيا وكذلك فعل الرومان. وحين ظهر الإسلام وقويت الدولة الإسلامية تقدمت إلى غيرها من البلاد، ووصلت إلى الأندلس عبورا بشمال افريقيا كله، وشرقا إلى فارس والهند.
قانون الحضارات قائم على غزو المجال الحيوي لما حولها من الدول، يتسع المجال الحيوي بقوة الدولة الجديدة وضعف من حولها. هذا القانون الذي تغير الآن ولم تعد الدول العظمى في حاجة إلى حروب مباشرة، فالسيطرة تتم من بعيد بالتكنولوجيا والمال. الصهاينة وحدهم ما زالوا على القانون القديم، وهو التوسع بالحروب المباشرة، وحين تقف معها هذه الدول فهي لا تبعد عن تاريخها، في الوقت الذي تكفِّر فيه عن ذنوبها مع اليهود عبر التاريخ. تكفّر فيه عن ذنوبها بالمجازر لشعب انفتحت بلاده من قبل لكل اليهود المضطهدين في العالم، هذا التناقض بين الوضع الداخلي من حريات في هذه البلاد ناتجة من أفكار فلاسفة عظماء، وثورات من أجل الحرية رفعت شعار الفلاسفة المستنيرين، والسياسة الخارجية التي عادت إلى العصور الوسطى، هل يجعلنا نكفر بالإنجازات الفكرية والفلسفية لهذه البلاد؟ التأني والتأمل البسيط يقول لا.

فالتاريخ يجمعنا معا في هذا التناقض، فما أكثر الفلاسفة العرب أيضا الذين كانوا مع الحريات، في وقت كان المسلمون يغزون العالم، بل نقلوا إلى العالم كثيرا من الفكر والأدب والخيال، وتأثر بهم أدباء ومفكرون في البلاد التي شملها الإسلام. المفارقة هي في العصر الحديث، وتخصنا أكثر، لقد أخذنا منهم أفكارا عظيمة عن الحرية والديمقراطية والتعليم، والمظاهر المادية للثقافة، مثل الحدائق والمباني، لكن الحكم في بلادنا لم يقتنع بذلك، جعله ديكورا شكليا في أحسن الأحوال، فالحاكم هو الأرض وهو الشعب وهو الوطن! وهكذا تجد بلدا عظيما في التاريخ والواقع مثل مصر التي بدأت نهضتها الحديثة بالاتصال بالغرب، عن طريق البعثات قبل وأثناء الاستعمار الإنكليزي، تجدها منذ بدأ عصر الانقلابات في العالم العربي، وحدث انقلاب يوليو/تموز 1952 كأنها لم تعرف مجلس الأمة أو البرلمان، وكأنها لم تعرف محاسبة الوزراء، وكأنها لم تعرف الحرية في المسرح والسينما والإبداع. والأمر طبعا يشمل دولا عربية أخرى. والداعم في ذلك كله كان ولا يزال دولة مثل أمريكا، بعد أن ضعف وجود إنكلترا وفرنسا وغيرهما بعد الحرب العالمية الثانية. كأن أسماء مثل رواد النهضة، طه حسين والعقاد ولطفي السيد وقاسم أمين وأحمد أمين ومئات من المفكرين لم تمر عليها، وكأنها أيضا الآن خالية منهم رغم أنهم كثيرون جدا في كل مجال. وحين تتأمل الدول الأجنبية الداعمة للكيان الصهيوني وتدرك الأسباب التاريخية لذلك، لا تندهش ولا تُصدم، فالحرية لشعوبها لا لغيرها. وإذا فكرت أكثر تجد هذه الدول، أو بمعنى أدق الأنظمة الحاكمة هنا، والأنظمة الصامتة هنا عن كوارث غزة، هي التي سعت لإفشال الربيع العربي في الدول التي انطلق فيها. هذا التناقض لا يحيرني وإن جعل الحزن ينصب خيمته حولي، وأنا أنظر في إمكاناتنا الثقافية والأدبية والفنية على مرّ التاريخ، خاصة الحديث والمعاصر، وكيف جعلها الساسة كأنها لم تحدث، أو كأننا مجتمع بدائي أبوي لم يتطور، وأعود وأتذكر في ثقة، أن المجال الحيوي للدول الصاعدة يتحقق باحتلال دول أخرى، وينتهي مهما طال الوقت، لكن المجال الحيوي للفكر، يشمل العالم كله ولا ينتهي، لا في الزمان ولا المكان، وهذا هو السر الأكبر من الحروب لانهيار أي شكل من الاستعمار، مهما تغافل القتلة والمجرمون.

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة الشريط الإخبارية 2024
تصميم و تطوير
Update cookies preferences