نضال منصور يكتب : ((حرب غزّة على مفترق طرق)) ..
الشريط الإخباري :
نضال منصور
خرجت مجلة الإيكونوميست بعنوان مثير، ولافت للانتباه "إسرائيل وحدها"، في إشارة إلى عزلتها الدولية بعد ما يقارب ستة شهور على حرب الإبادة التي تشنها على الشعب الفلسطيني في غزّة. ... ليس مهمّا صحّة هذا الافتراض، أو التقدير السياسي، لكن من المهم أن نقرأ بعد أشهر طويلة على حربٍ شرسةٍ التحوّلات في المشهد، مع الإشارة الواضحة التي لا تحمل لبسا أن قادة الاحتلال الإسرائيلي لا يهتمون على الأقل علنا بهذه المتغيرات، والمواقف، ويستخفّون بها، ويدينونها، وآخرها انتقادات للرئيس الأميركي بعد قرار مجلس الأمن تكاد تصل إلى التهديد.
أول محطة يمكن التوقّف عندها باهتمام قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار في غزّة بعد محاولات عديدة باءت في الفشل، وبعد مضي أكثر من خمسة شهور على العدوان الإسرائيلي، وبلوغ شهر رمضان منتصفه، وحصيلة الشهداء تزيد عن 32 ألفا، جلهم من الأطفال، والنساء.
القرار مهم رغم امتناع أميركا عن التصويت، وهو بحد ذاته موقف، وتحوّل، ورغم أيضا أن القرار اتخذ بموجب الفصل السادس، وليس السابع، وهو لا يملك آلياتٍ للتنفيذ، ولا يأخذ قوة الإلزام، ولكنه حجرٌ رمي في بركة الصمت، والمؤامرة على الشعب الفلسطيني، وما كان يمكن أن يحدُث لولا حجم الكارثة، والصمود الأسطوري للفلسطينيين الذي لا يصدّقه عقل، وقباحة الجرائم الإسرائيلية وبشاعتها، وجديدها أخيراً ما علقت عليه المقرّرة الأممية الخاصة بالأمم المتحدة المعنية بالعنف ضد النساء والفتيات، ريم السالم، حين أعربت على منصة "إكس" عن قلقها إزاء تزايد حالات الاغتصاب التي يرتكبها جنود إسرائيليون ضد فلسطينيات. وشدّدت على أن الاغتصاب وغيره من أنواع العنف الجنسي يمكن اعتبارها جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية، أو سلوكيات قد تشكّل إبادة جماعية.
ما زالت إسرائيل تجاهر بأنها لن توقف الحرب قبل أن تقضي على حركة حماس، وقبل أن تحقّق أهدافها، ومنها القبض على قادة فصائل المقاومة الفلسطينية. ولذلك يعلن نتنياهو أنه سيعاقب الرئيس الأميركي، جو بايدن، لأن الولايات المتحدة لم تستخدم "الفيتو" ضد قرار مجلس الأمن، وبأنه، احتجاجاً، لن يرسل وفدَه إلى واشنطن للتفاهم معها على خطّتها ما بعد اليوم التالي للحرب.
التحوّلات بطيئة بكل تأكيد أمام هول جرائم الحرب المرتكبة، وقد يكون بعضها "بروباغندا" ليس لها أثر على أرض الواقع، لكن رصدَها مهم، وفي المنظور الاستراتيجي، وبعيد المدى تبدو نقطة تحوّل مهمة. مثلا، تعلن دول أوروبية عديدة أنها تدرس الاعتراف بدولة فلسطين، وأخرى تناقش وقف تصدير الأسلحة لإسرائيل.
من المهم، في هذا السياق، الإشارة إلى الدعوى التي أقامتها نيكاراغوا في محكمة العدل الدولية ضد ألمانيا لتصديرها أسلحة للاحتلال الإسرائيلي تتهمها بتسهيل الإبادة الجماعية، كما أن تصريحات الرئيس الكولومبي، غوستاف بيترو، تستحق التوقف؛ إذ يدعو الدول إلى قطع علاقاتها مع إسرائيل، إذا لم تلتزم بقرار مجلس الأمن بوقف الحرب، وإذا ما انتشرت هذه العدوى فإن الحصار يطبّق على الدول المشاركة في العدوان، ويضيق الخناق على سلطة الاحتلال، وتبدو معزولة، ومنبوذة أكثر.
مع اقتراب الحرب الإسرائيلية على غزّة من إكمال شهرها السادس، فإن حملات الاحتجاج في أوروبا وأميركا لم تتوقف، وبدأت تأخذ أشكالاً أكثر تنظيماً، وتأثيراً، فحركة المقاطعة مستمرّة، وتتوسّع، وتُحدث أثرا اقتصاديا، والحركات الطلابية المتضامنة مع الحق الفلسطيني تسيطر، وتكتسح، والأهم أن هؤلاء الطلبة والطالبات بعد عشر سنوات سيصبحون أصحاب القرار في دولهم، والأهم التأثيرات لهذه الحملات، والمواقف في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
على الأبواب الانتخابات في أميركا، وفريق الرئيس بايدن يعرفون أنه سيخسر ولايات حاسمة في سباق الرئاسة بسبب الأصوات العربية. والسبب موقفه المشين من الحرب على غزّة، ولا يفيد تهديدات الديمقراطيين الشارع العربي أن البديل لبايدن هو ترامب، وما لم تتخذ الإدارة الديمقراطية مواقف مختلفة تثبت تحوّلا أكثر عدالة، وإنصافا لفلسطين فإن الجمهور العربي سيعاقبها، وقد تنضم لهم جاليات أميركيا اللاتينية، والأفارقة، وهم الأصوات التي حملت بايدن إلى البيت الأبيض.
الخسارة الكبرى كانت من الدم الفلسطيني، لكن إسرائيل التي كانت قبل 7 أكتوبر لن تبقى كما هي
للمشهد أيضا وجه آخر لا يمكن إنكاره، أو التغاضي عنه، فالدول العربية، باستثناءات قليلة، لم تفعل شيئا لغزّة، وتتهم من شعوبها بالتقصير، وأحيانا بالتآمر، هذا عدا عن الضغوط التي تتعرّض لها إذا اتّخذت مواقف صلبة في مقارعة الاحتلال الإسرائيلي، والجمهور العربي تعب، وحركات المناصرة تراجعت، ولا توجد حركاتٌ منظمّة تقود حراكا طويل المدى، ولا تملك أدوات ضغط فاعلة على أنظمتها.
وليس من باب إحباط المعنويات، أو التشاؤم، فإن حركة حماس تعرّضت لضربات عسكرية موجعة، وقوتها تتآكل، وجيش الاحتلال منذ أشهر يقوم بعمليات تمشيط واسعة، يصاحب ذلك استمرار معركة التجويع للشعب الفلسطيني في ظل انعدام، أو شح المساعدات الإنسانية، وكل الأحاديث عن الضغط على إسرائيل للسماح بإدخال المساعدات لم تنتج أثرا، وعودة "أونروا" بفعالية بعد محاولات إيقافها تحتاج وقت طويل لاستعادة دورها، وحبال كلام الأميركيين عن الميناء البحري طويلة، وتلازمه الشكوك والاتهامات.
في المشهد الداخلي على الجبهتين، إسرائيل تعيش أزمتها الداخلية، وسيناريو نتنياهو إطالة أمد الحرب حتى لا تسقط حكومته، ويستخدم ورقة اقتحام رفح للمساومة والابتزاز الدولي، وبعد أزمته مع أميركا، وتصدّع حكومته، لا يُعرف أين ستأخذه المآلات. فلسطينيا، لم يعد الرئيس محمود عبّاس مقبولاً شعبيا، ولا يملك أوراق قوة في الداخل، أو الخارج، وهو يدرك أن القوى الدولية، بما فيها العربية، تضع الخطط البديلة، وهو ليس في صدارتها، وإن جاء ذكره فهو لمرحلة انتقالية مؤقتة.
حرب غزّة على مفترق طرق؛ الخسارة الكبرى كانت من الدم الفلسطيني، لكن إسرائيل التي كانت قبل 7 أكتوبر لن تبقى كما هي.