«بوكر» العربية لأسير فلسطيني … تكريم في ظلال التطبيع

{clean_title}
الشريط الإخباري :  
هناك، لدى الكثيرين، أسباب عديدة للاحتفال بفوز الفلسطيني باسم خندقجي بجائزة بوكر العربية أخيراً عن روايته «قناع بلون السماء»، بينها أن الكاتب أسيرٌ في السجون الإسرائيلية حتى اللحظة، وما يفعله من قلب السجن أقرب إلى معجزة تضاف إلى سجل المعجزات الفلسطينية، عندما يؤلف ويكتب ويتابع دراساته الجامعية العليا، بالإضافة إلى أنه شكّل، عبْر هذه المثابرة، وعبر ترشيحه لهذه الجائزة كابوساً لإسرائيل التي حاولت مراراً التضييق والتحريض عليه.
وقد يعتبر اقتفاء أثر الأوراق والقصاصات التي تخرج من وراء الأسوار حكاية بذاتها، قد تستحق بالفعل أفلاماً وثائقية وروائية، وكذلك كيف يكتب الأسير، وفي أي ظروف، وأي «طقوس» للكتابة لديه.
كل ذلك قد يعني بالفعل تسليطاً للضوء على معاناة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، وقد باتوا، بعد السابع من أكتوبر الماضي، في ظروف أكثر صعوبة، أشد معاناة، وإهمالاً إلى درجة القتل.
لكن عاملاً مهماً جعل العديد من الكتاب الفلسطينيين، على الأقل، أقلّ احتفالاً بالجائزة التي مُنحت لمواطنهم الأسير، وهو أن «البوكر العربية» تأتي برعاية دولة الإمارات، الرمز الأبرز للتطبيع مع إسرائيل اليوم، في لحظة محرجة، حيث ينقلب العالم برمته ضد إسرائيل، وتشي خصوصاً انتفاضة طلاب الجامعات في الولايات المتحدة ببشائر لم يشهدها العالم منذ عقود طويلة.
الإمارات التي باتت تمثل الثورة المضادة لأي ربيع عربي محتمل، وبات واضحاً تدخلها القذر في مصر وليبيا والسودان وسوريا واليمن (كان هناك تحقيق مروّع لـ «بي بي سي» يوثق لموجة اغتيالات رعتْها أبوظبي هناك)، والدرع الحامي لإسرائيل (نقرأ منذ يومين قول المحلل في معهد واشنطن أندرو تابلر إن روسيا ودولة الإمارات العربية المتحدة، التي استأنفت علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق عام 2018 حثّتاها على البقاء بمنأى عن النزاع الدائر بين «حماس» وإسرائيل،.. فقس على ذلك)، وملاذاً للهاربين الروس، ورمزاً للتلاعب والتزييف.
حتى عندما تقرأ في صحف الغرب عن «موسوعة غينيس للأرقام القياسية» وعلاقتها بتلميع الأنظمة الديكتاتورية، ومن بينها الإمارات، ستعرف أن لا شيء يفلت من براثن «إسبرطة الصغيرة»، وستفهم معنى صناعة والتلاعب بعدّاد الأرقام العالية عن الانسجام الاجتماعي، وأكبر عدد من الجنسيات، والدراجات الهوائية.. ستتأكد أنه لا يمكن أن تمرّ جائزة مرموقة مثل «البوكر» من دون توظيف سياسي. و«منظمة هيومان رايتس ووتش حذرت من أن الإمارات تستثمر في إستراتيجية لرسم صورة عن بلد تقدمي ومتسامح ويحترم الحقوق، في وقت يقوم فيه بتطبيق سياسة صفر تسامح مع المعارضين، ما يشير إلى اتهامات تبييض الصورة»، بحسب صحيفة «ديلي تلغراف».
وما دام الأمر كذلك، فلا بدّ أن مقاومة الدولة الأخطبوطية في التفاصيل ستعني مقاومة سياساتها في التطبيع، وفي تلميع دولة الاحتلال وتسويق مشاريعها، بل وفي استمرار المقتلة في قطاع غزة والضفة الغربية.
إذن فإن الإمارات، جملة وتفصيلاً، تمثّل كل ما قاتلَ ضده الروائي الأسير، المحكوم بثلاثة مؤبدات قضى منها حوالى عشرين عاماً حتى الآن، وعلى الأقل هي تمثّل السند الأول عربياً لسجّانيه، وهو لا يمكن أن يكون غافلاً عن ذلك، فعملية قبوله بالجائزة ليست مفاجأة بل استغرقت شهوراً طويلة، بدءاً من الترشيح، إلى الوصول إلى القائمة القصيرة. ونعرف سلفاً أن الأنظمة لم تعد تغامر بمن يُتَوقَّع أن يرفض جائزتها، خصوصاً بعد الرفض المدوي للروائي المصري صنع الله إبراهيم لجائزة الدولة التقديرية في الآداب، أرفع الجوائز في بلده، بخطاب انتقادي في مؤتمر القاهرة الروائي العربي العام 2003.
تاريخ رفض الجوائز طويل، وإن كنا لا نعرف سوى عدد لامع من الأسماء، من سارتر الذي رفض نوبل للآداب (العام 1964)، إلى مارلون براندو الذي رفض أوسكار أفضل ممثل عن دوره في فيلم «العراب» (1973) احتجاجاً على سوء معاملة هوليوود والمجتمع الأمريكي للهنود الحمر، سكان البلاد الأصليين.
تاريخ الرفض طويل، لأن هناك حكايات أقل شهرة، عن مخرج رفض مقابلة رئيس، أو من رفض وساماً، أو أعاد جائزة أو وساماً إثر موقف سياسي. ومن طردوا من مؤسساتهم بسبب «لايك» على منشور فيسبوك، ومن لم يصلوا أصلاً إلى مؤسسات بسبب موقف أو عناد سياسي. وحتى لا نذهب بعيداً، فهذا الكاتب الفلسطيني ربعي المدهون حائز على البوكر نفسها العام 2016، عن روايته «مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة»، وقرر التخلي عنها إثر تطبيع الإمارات مع دولة الاحتلال، بصيغة تقول: «لم أعد معنيّاً بهذه الجائزة/ البوكر العربية».
لا لوم على الكاتب الأسير، فلا يحق لأحد المزاودة على من يدفع الثمن باهظاً إلى هذا الحد، ولكن ما دامت الكتابة موقفاً، وشكلاً من أشكال المواجهة يحق لنا أن نسأل أي نوع من الاحتجاج إذن!
بإمكان الجائزة، رفضها أو قبولها، أن تكون درساً عظيماً على نحو موقف براندو الاستثنائي إزاء الأوسكار، أو تمرّ مع تسويغات شتى، كما مرّ من قبل، مع الأيام، قبول الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي جائزة إسرائيل للأدب، العام 1992، من يد رئيس حكومة الاحتلال شخصياً، وقد جرى تبرير ذلك بالقول إن الأديب (الباقي في حيفا) انتزع اعترافاً إسرائيلياً بالأدب الفلسطيني والشعب الفلسطيني، غير الموجود أساساً في رواية مانحي الجائزة، كما سُوِّغ موقفه بالقول إن الكاتب حاز سلفاً موافقة ياسر عرفات شخصياً على قبول الجائزة.
غير أن ما يدوّخ هو احتفاء بعض كتّاب الممانعة بالجائزة. لا تدري بأيّ عينٍ يكيلون! متى يعتبر التطبيع تطبيعاً؟ ومتى بطولة؟ هذا علمه عند أقطاب الممانعة، بفرعها اللبناني تحديداً.
راشد عيسى

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة الشريط الإخبارية 2024
تصميم و تطوير
Update cookies preferences