الصحافي الفلسطيني يعيش في حرب لا تنتهي
الشريط الإخباري :
عدستها وثّقت حياة مخيم «عش الدبابير» ومعرضها في بيروت يشبه الزيارة لجنين
بيروت ـ «القدس العربي»: نالت الزميلة شذا حنايشة منحة الشهيدة شيرين أبو عاقلة لدراسة الماجستير في الجامعة الأمريكية في بيروت. شذا التي شاهد العالم أجمع صورتها بالقرب من زميلتها الشهيدة عاشت أوقاتاً صعبة نتيجة الصدمة. قاومت لتعود إلى سابق عهدها في مهنتها، ولم تتمكن. وجدت في تلك المنحة يد شيرين المعطاءة وقد امتدت لتأخذ بيدها وتحثّها لمتابعة الطريق.
في بيروت أقامت شذا حنايشة معرضاً ضمّ عشرات الصور التي التقطتها خلال عملها في الضفة الغربية وخاصة في مخيم جنين. صور نقلت حياة الناس في ظل الاحتلال الهمجي، وما يتسبب به من قتل وتدمير ممنهج. معرض جنين يشبه الزيارة للمكان وناسه المقاومين. إنها زيارة لـ«عشّ الدبابير» نلتقي بصغاره وكباره، شيبه وشبابه، وشوارعه، ومقابره التي تحوّلت لحدائق تريح النفس. كل هذا نقلته عدسة شذا حنايشة.
معها هذا الحوار:
○ تترددين إلى بيروت منذ حوالي سنة لدراسة الماجستير في الجامعة الأمريكية. إلى ماذا تفتقدين في فلسطين وأنت هنا؟
• بالتأكيد الأهل أولاً، ومن ثمّ وجودي على الأرض وبين الناس وممارسة عملي الصحافي، وتصويرهم والكتابة عنهم. في بيروت تحديداً أفتقد «الخَضَار» فجنين مدينة ذات طبيعة خضراء، واسمها مشتق من الجنان.
○ وماذا عن الصورة الرئيسية لمعرض جنين المستمر في دار النمر؟
• إنها صورة مخيم جنين، أو «عش الدبابير» كما يحب أهله تسميته، وفيه الكثير من المواقع الخضراء، وبقايا لأشجار النخيل. فجنين مدينة كنعانية، وأحد شوارعها المُسمّى منذ زمن قديم بشارع حيفا، كونه كان يربطها بتلك المدينة الفلسطينية على البحر، مغروس بكامله بأشجار النخيل. وبالدخول إلى جنين من جهة الغرب يتواجد مرج بني عامر، ومن الجنوب أحراش السرو والصنوبر، الأشجار الخضراء موجودة في كل مكان، وخاصة على أطراف المدينة.
○ نحن البعيدون عن فلسطين نعرف سرقة الصهاينة للمساحات لإقامة المستوطنات ونفترض أنهم لم يتركوا لأهل الأرض مساحة خضراء؟
• ما تقولينه صحيح. الاستيطان يستشرس بأراضي الضفة الغربية بشكل مخيف، إنما محافظة جنين ومدينتها، ومخيمها وقراها وبلداتها من أقل المحافظات تفشياً للمستوطنات. كانت هناك مستوطنات بقلب المحافظة وتم إخلاؤها عام 2005 ضمن اتفاقية «فك الارتباط». وفي هذه الأيام يحاول المستوطنون العودة إليها، كمثل مستوطني «ترسلة» و«حومش» من خلال تحويلها لمدرسة دينية للمستوطنين. المقاومة لا تتوقف في جنين وهناك استهداف يومي للمستوطنات المحيطة، ما يخيف المستوطنينن، ولهذا السبب ما زالت جنين تحافظ على مساحتها الخضراء من دون غيرها.
○ وهل ما تزال جنين تمتلك مناطق زراعية؟
• بالتأكيد وهي واسعة ومتنوعة جداً. وتُعرف في محافظة جنين الحسبة «سوق الخضار» وفيها سوقان للخضار، وأحدهما في بلدة قباطية وهو أكبر أسواق الخضار في الضفة الغربية. جنين محافظة تعتمد على الزراعة كونها تضمُّ مرج بن عامر والسهل الغربي، وفيها الكثير من أشجار الزيتون كونها تجمع بين السهل والجبل، وتتميز جنين بأحجارها.
○ صحيح وهذا باد بوضوح على أضرحة الشهداء؟
• وجميع ما شاهدته من أحجار هو من أرض جنين وإنتاجها، ويعرف بـ«الذهب الأبيض».
○ جمع معرض جنين بين مخيمها ومخيمي طولكرم ونور شمس. ما الذي يربط تلك المخيمات ببعضها؟
• المقاومة ربطت هذه المخيمات ببعضها، ومن ثم طبيعة المخيمات واندماجها بالمدن، كمخيم جنين القائم في وسط المدينة ومندمج ضمنها. ونحن لا نعرف حدود المخيم إلا من خلال مدخله الرئيسي، وبالدخول إليه تبدأ الأبنية بالاختلاف عن خارجها، أبينة المخيم متراصّة. يبعد مخيم جنين عن مخيم طولكرم ونور شمس، نصف ساعة بالسيارة دون احتساب معوقات الحواجز الصهيونية. ويقع مخيم نور شمس على مدخل مدينة طولكرم، الجميل في تلك المخيمات أنها تقع في مناطق جبلية، وتبدأ بالامتداد من أسفل إلى أعلى، ونلحظ ذلك خلال المسير.
○ من أية قرى من فلسطين تهجّر سكّان تلك المخيمات؟
• مخيم جنين هو الأقرب لمدن حيفا والناصرة ومنطقة الكرمل، وسكانه من هذه المناطق، والنسبة الأكبر من قرية زرعين، وهي الأقرب للمدينة، ومن يقصد الداخل المحتل سيمرّ أولاً ببقايا قرية زرعين المهجّرة. حملت الإسم لكون أرضها زراعية. قبل الاحتلال كان يقصدها أهالي قرى محافظة جنين للعمل والزراعة. لاحظت أنّ سكّان مخيمات لبنان يسمون الشوارع بأسماء قراهم، وهذا غير موجود في مخيمات الضفة الغربية.
○ نلت المنحة الأولى التي قررتها الجامعة الأمريكية في بيروت بإسم شيرين أبو عاقلة. مذا يعني لك هذا؟
• صراحة ولوقت طويل كنت إنسانة تائهة وضائعة بعد استشهاد شيرين. لم أكن مستقرّة نفسياً وقادرة على التعامل مع محيطي سواء في العمل أو العائلة. صوت الرصاص كان يذكرني بالحادث المؤلم، وبأنه سيقتلني، كذلك حالي مع منظر الجنود الصهاينة. وجودي على الأرض لممارسة عملي كان صعباً جداً. حين أخبروني بالمنحة إلى بيروت، والرغبة بأن أكون أول من ينالها، شعرت وكأن شيرين مدّت يدها لي، وساعدتني لتجاوز الضياع والألم والصدمة، والعودة إلى توازني. السنة التي أعقبت استشهاد شيرين كانت قاسية للغاية، لم أكن لأستوعب أن الفتاة التي كانت قرب شيرين تحت الشجرة هي أنا، ولم أستوعب موتها أمامي، نعم كنت أحتاج للهروب، وكانت هذه المنحة.
○ ما هو آخر حديث بينك وبين شيرين؟
• كان الرصاص ينهمر. بدأنا بالتراجع.. آخر ما قالته «علي أصيب». عندما وقعت أرضاً أعتقدتها تدعثرت بالأعشاب. لم تتحرك، أيقنت أنها اصيبت عندما شاهدت الدم تحت رأسها.
○ في معرض جنين لفتني كم الأضرحة التي صورتها وهي تنبض بالحياة؟
• زيارة أضرحة الشهداء عادة يومية للأمهات في جنين. أمهات يتلمسن الأضرحة ويقرأن القرآن. في بداية عملي الصحافي كانت المقبرة أمراً موحشاً، لكن ومنذ سنة 2021 والمخيم يودع الشهداء جماعة، وليس فرادة، فباتت أضرحة الشهداء كما الجنائن، وبعضها عليه صورهم. دخول المقبرة بات يشبه الدخول إلى حديقة، انتفت مشاعر الخوف والرهبة. ليس فقط الأهل من يزور الأضرحة، بل أصدقاء للشهداء يترددون على الدوام إليها. المستجد أن المخيم بات يضمّ ثلاث مقابر، وبدخولها يكتشف الناظر إليها أنه حيال معرض لصور لشباب، مع العلم أن مساحة المخيم أقل من نصف كيلو متر مربع.
○ وكأن العلاقة متواصلة بين الشهيد وأصدقائه أحدهم يسمعه أغنية كان يحبها؟
• إنها طبيعة العلاقة بين الصديق والشهيد، وهذا ما نلمسه بشكل مبهر. هذا الشاب كانت تربطه بالشهيد صداقة متينة، وكانا معاً يستمعان إلى أغنية وطنية، وهو يواصل زياراته للضريح ويسمعه الأغنية.
○ وجدت أحدهم يخاطبك بالإسم ويشكو خسارته لمنزله. لهذه الدرجة تتوثق العلاقة بين الصحافي والناس؟
• عندما يصبح الصحافي قادراً على نقل قصص الناس وحكاياتهم، وتجاربهم مع الموت والقتل والداهمات، يصبح بالنسبة للناس وسيلةً للتعبير. من زمن قصير أتواجد مهنياً في مخيم طولكرم، وعندما قصدته قالوا «وأخيراً جئت تكتبين عنا». وفي هذا المعرض شعرت بالذنب لأني لم أزر بعد مخيم طوباس وأصوره، فلهم تجاربهم التي من واجبي نقلها للعالم. قراري لدى عودتي إلى فلسطين زيارة كافة المخيمات، والقرى. فالمقاومة تخطت المخيمات وانتقلت للقرى والبلدات.
○ كونك ولدت وكبرت في قباطية في محافظة جنين تعرفين من أطلق على مخيمها لقب «عش الدبابير»؟
• لست أدري، لكنّ تداوله على نطاق واسع جاء من شباب المخيم الذين يعتبرون أنهم يلسعون جنود الاحتلال في كل اقتحام. باتوا لدى السؤال عن انتمائهم يقولون «إحنا من عش الدبابير».
○ ماذا عن مواجهتكم اليومية مع جنود الاحتلال؟ وهل يساعدكم وجود الصحافيين الأجانب؟
• يتواجد الصحافي الأجنبي في الداخل المحتل، ومن ثم ينتقل إلى الضفة الغربية لممارسة عمله. من دون شك الاختلاف كبير في كيفية التعامل مع الصحافي الفلسطيني والآخر الأجنبي. وأحياناً قد يتعرض الأجنبي مثلنا للعنف والقمع والرصاص أو محاولة القتل. الصحافي الفلسطيني في الميدان في حالة حرب مستمرّة، وليس في حرب يمكن أن تنتهي، بل الحرب شاغله المهني اليومي، بينما الصحافي الأجنبي المتخصص في الحروب يبحث عن حرب ليغطيها. يستحيل على الصحافي الفلسطيني أن يغادر منزله أو مكتبه من دون درع وخوذة، أو هما تستقران في السيارة، إنها حياتنا اليومية في المهنة. يستغل الاحتلال أحياناً الصحافي الأجنبي، مثلاً في آخر تغطية لي في مخيم جنين والتي استمرّت لثلاثة أيام، كان ممنوعاً على السكان الحركة نهائياً ولأيام. تواصل رب عائلة بكافة المؤسسات الدولية لتأمين خروج طفلته إلى المستشفى، ولا جواب. بعد يومين سُمح له بالخروج في مسار مرسوم للسير على الأقدام. فالاحتلال جرّف البنية التحتية، ولم تعد للمركبات قدرة الحركة. مشى الأب حاملاً طفلته وأكياسه، وخلفه مركبة للاحتلال، وصل إلى نقطة الصحافة، وحينها نزل ضابط من الآلية وناول الطفلة قطعة بسكويت. صوّر الأجنبي المشهد، أما نحن فنعرف هذه الخدعة، حاولوا الإيحاء بإنسانيتهم للصحافي الأجنبي في حين أن الطفلة كانت مسجونة مع وجعها على مدار يومين. احترم الصحافي الأجنبي رأينا بأن الإحتلال خلق مشهداً، واكتشف الخدعة بنفسه، ولم ينشر الصورة.
○ رغم كل الدماء والألم الذي قاله المعرض وجدنا بسمة وفرحة؟
• صحيح. وهذه حقيقة المخيم وما صورته في مختلف الأماكن. للناس قدرة ابتكار الضحكة والسعادة وسط الموت والدمار والقتل. في إحدى الصور هدم الاحتلال صالوناً لأحد منازل المخيم. كان صاحب المنزل في غاية الضيق، وعندما مرّ أحدهم وقال له «مبروك صار عندك شباك لم تعد تحتاج المروحة» ضحك. إنه الشعب الفلسطيني، وهذا جزء من المقاومة. وفي صورة أخرى خرج أحدهم من أصحاب الاحتياجات الخاصة ليتنزه رغم الدمار الذي الحقة الاحتلال بالبنية التحتية لطرقات المخيم. ضحك للكاميرا وأظهر كيف له قدرة القفز عن مياه الصرف الصحي. صممت في هذا المعرض أن أقدم للمتلقي في لبنان صورة الناس الذين يعيشون في فلسطين.
○ وكيف وجدت ردة الفعل؟
• كانوا في شوق للمعرفة، وبعضهم أصابته الصدمة. فتفاصيل كثيرة كانت غائبة عنهم حول حياة الشعب الفلسطيني، وبعضهم استغرب فرحة الأطفال في ظل الاحتلال. في الحقيقة يعيش الطفل عنف الاحتلال لكنه يُكمل حياته ولعبه لاحقاً.
○ وماذا بعد الماجستير؟
• سوف أتابع نقل صورة الواقع. كل ما هو حاصل في غزة والضفة وجنوب لبنان، يقول لي بأن واجبي متابعة العمل في مهنتي وإيصال صوت الناس.
زهرة مرعي