الحرب الدائمة: لماذا بات «السلام» سيئ السمعة؟
الشريط الإخباري :
تكتسب مفردة «سلام» ومشتقاتها، في التداول السياسي العربي المعاصر، معاني غير إيجابية عموماً، فهي قد ارتبطت أساساً بالصراع العربي الإسرائيلي، و»عملية السلام» التي اعتُبرت، من قبل أغلبية الدول العربية، ضرباً من الخيانة، في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، ثم باتت رمزاً لخيبة الأمل والشعور بالخديعة، بعد فشل أغلب مسارات التفاوض، التي أطلقها مؤتمر مدريد عام 1991. لم تصل المنطقة إلى «سلام عادل وشامل» بل غرقت أكثر في الاضطرابات والحروب، وبدا «السلام» مرادفاً للتنازل والتخاذل والتفريط بالحقوق.
هنالك مدلول آخر للمفردة، ارتبط بانتفاضات «الربيع العربي» وبالتحديد شعار «سلميّة» أي مواجهة الأنظمة بطريقة لاعنفيّة، الأمر الذي نظَّر له كثير من ناشطي تلك الانتفاضات، بل كان له، في فترة من الفترات، دورات تدريبيّة، تجريها بعض «المنظّمات المدنيّة». وبعد تحوّل كثير من تلك الانتفاضات إلى حروب أهلية وأعمال عنف مروّعة، باتت «السلميّة» أقرب لنكتة، تشير إلى فشل منظورات وأساليب ناشطي «الربيع».
وسواء تعلّق الأمر بالتعاطي مع دولة الاحتلال، أو محاولات التغيير الاجتماعي الداخلي، فإن «السلام» لم ينفع، ولم يتحقق على أرض الواقع. تبدو المقاومة المسلّحة، مهما كانت أثمانها، الخيار الوحيد في مواجهة دولة الاحتلال؛ فيما لا جدوى من مواجهة الأنظمة بالورود، ولا بغيرها، وكثيرون ينتظرون الآن انفجارات اجتماعية جديدة، بمشاعر تتراوح بين الرعب والتشفّي العدمي، هل هذا يعني أن الحرب، بكل أشكالها، الخيار الواقعي الوحيد؟
عملياً، ليست الحرب «خياراً» بل هي وضع قائم ومستمر وقاهر، منذ بدء التحلل الشامل للنظام العربي مع مطلع الألفية، أي منذ الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وأحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، واحتلال العراق، وبدء موجة الاغتيالات في لبنان، و»سقوط» عواصم عربية تحت النفوذ الإيراني. لدرجة يمكن معها القول إننا نعيش في منظومة من الحرب الدائمة، تتداخل فيها أطراف إقليمية ودولية متعددة، وتنتج طُغماً وميليشيات متصارعة. وقد انخرط كثير من سكان المشرق العربي خاصةً، في «المجهود الحربي» منظّمين «مقاومات» ومستقبلين «متطوعين» من دول الجوار وكل أنحاء العالم، ولا يبدو أن أحداً قد حقق أي شيء، إذ يظل الاحتلال و»الاستبداد» قائماً، لكن على أطلال مدن وقرى مدمّرة، وضمن أوضاع أكثر سوءاً مما خرج الناس ضده. قد يتطلّب هذا إعادة التفكير بـ»السلام» بعيداً عن مدلولاته الدارجة، والأقرب لمخيلتنا السياسية المعاصرة: هل تعني المطالبة بوقف الحرب الشاملة في المنطقة العودة إلى الصيغ المتخاذلة أو المثيرة للسخرية؟ أم الأجدى تأييد الطرف الذي نهواه في تلك الحروب، إلى أن يتحقق تغيّر تاريخي، أو يأتي متغلّب ما، يستطيع فرض سلامه الخاص؟
هياكل الحرب
لا تتطابق «حركة السلام» بشكل تام مع النزعة اللاعنفيّة، لا تاريخياً ولا فكرياً؛ كما أنها لم تقتصر على المطالبة بإنهاء صراع ما، ومن ثم الأمل بمستقبل تصنعه الأنظمة والحكومات التي خاضت الحروب سابقاً. إذ لم يرفض كل أنصار السلام فكرة الحرب بشكل كامل، بل وضعوا نظريات عن «الحروب العادلة» وميّزوها عن الحروب التي يرفضونها؛ وطالبوا، في كثير من الأحيان، بإسقاط الأنظمة المنتجة للحروب، وليس فقط استجداءها لأجل السلام. ورغم تعدد مشارب أنصار السلام، من التيارات الدينية وشبه الدينية، إلى القوى التي ترى نفسها تحررية، أو حتى ثورية، فإن الحركة قدّمت، منذ مطلع القرن العشرين، صيغةً أكثر عمقاً في فهم الحرب، ومن ثمّ مناهضتها: الحروب نظام، له هياكله وبناه وآلياته وأيديولوجياته، ولذلك فإن المطالبة بالسلام ليست مجرد فكرة أخلاقية، منسحبة من كل صراع، بل هي عمل سياسي إيجابي، وقد يكون عنيفاً أحياناً، غايته الأساسية تفكيك هياكل الحرب. ومن هنا ظهرت مطالب مثل نزع التسلّح؛ مناهضة التجنيد الإلزامي؛ مواجهة الفاشية والنزعات القومية المتطرّفة والإمبريالية؛ إعطاء دور أكبر للمنظمات الدولية، سواء على المستوى السياسي أو الحقوقي. وهي مطالب أثّرت بشكل عميق على ثقافتنا السياسية المعاصرة، وتطلّبت، للمفارقة، تنظيم انتفاضات وحروب شوارع.
يبقى الحاسم في أي حركة سلام، تستحق هذا المسمّى، تحديدها لهياكل الحرب، التي تريد تفكيكها، فكل الأنظمة والقوى السياسية في نهاية المطاف، حتى الفاشية منها، ادّعت أنها تحارب الآن لأجل سلامٍ في المستقبل، لإزالة مظلمة ما، أو انتزاع حق تاريخي. وعدم فهم هذا قد يكون أحد مظاهر الخلط الحاصل في بعض الحركات المعاصرة، التي تعبر نفسها مناهضةً للحرب: يؤيّد كثير من المتضامنين الغربيين مع القضية الفلسطينية ميليشيات مسلّحة في منطقتنا، بما في ذلك حزب الله اللبناني، وهو صاحب منظومة حرب، وشبكة من العصابات، ممتدة في أكثر من دولة. وإذا كان سبب التأييد ما يبدو من مواجهة ذلك الحزب للاحتلال الإسرائيلي، أو «الكولونيالية» المنتجة للحروب عموماً، فلا يوجد سبب منطقي يمنع تأييد الحرس الثوري الإيراني، وهو «الميليشيا الأم» المُنظّمة لبعض أهم «مقاومات» المنطقة.
ليس تأييد مقاومة، أو نمط معيّن من المقاومات، جديداً على تاريخ حركات مناهضة الحرب، فقد سبق لها مثلاً إبداء تعاطف كبير مع المقاومة الفيتنامية، إلا أن ما ينقص حركة مناهضة الحرب المعاصرة هو التفكير الجدّي بالهياكل المنتجة للاضطرابات الدموية في منطقتنا، إنها ليست فقط دولة احتلال نووية، مدعومة من دول غربية كبرى، بل أيضاً سلسلة من العصابات والميليشيات وأشباه الأنظمة، التي أدت لخراب في مناطق متعددة، لا يقلّ عن خراب غزة، وفي ذمتها مئات آلاف القتلى، ومستفيدة من حالة الحرب الدائمة، بل نظّمت اقتصاداً كاملاً للحرب، من الاتجار بالممنوعات وحتى السيطرة على المساعدات الإنسانية، لا يقتصر على منطقتنا، فقد وصلت نشاطات تلك العصابات حتى افريقيا وأمريكا الجنوبية. السلام، أياً كانت صيغته، ليس بالتأكيد من مصلحتها، خاصة أنه يرتبط بإنهاء الحالة الاستثنائية، التي تنتعش فيها سلطتها، ويؤدي إلى تفكير جدّي بقضايا مثل استعادة الدولة، واحتكارها للسلاح، وسيادة القانون.
غيّرت العصابات من تركيبة المجتمعات التي تسيطر عليها بالعمق، وحولّتها إلى الأنشطة الهامشية وشبه الإجرامية، أو إلى مجموعات من متلقي المساعدات. وهي تعتبر البشر تحت سلطتها مخزوناً «بيولوجياً» صالحاً لطلب الإغاثة، وتجنيد المقاتلين، والتلويح بقوافل من اللاجئين؛ فضلاً عن أنها تمنع بالعنف، بروز أي تنظيم اجتماعي ديمقراطي. لا توجد حالة مناسبة للعسكرة، التي انحدرت للميليشياوية، أنسب من هذه. وبالتالي فإن تأييد تلك «المقاومات» غير منطقي فيما يتعلّق بوقف الحرب، أو استعادة الحقوق، أو أي تغيير اجتماعي أو سياسي.
فشل التضامن
من غير المتوقع إذن، حتى لو توقّفت الأعمال العسكرية المباشرة في غزة، أو غيرها، أن تصل المنطقة إلى مرحلة من السلام، وذلك لأن الهياكل السلطوية والتنظيمية، المنتجة للحروب والنزاعات الميليشياوية، ستستمر. وبغياب حركة سلام عالمية، يمكنها فهم هذا، فالموضوع ملقى بالكامل على عاتق أبناء المنطقة، وربما هم من يجب أن يقودوا حركة من ذلك النوع، بما يتسق مع ظروفهم ومصالحهم، لا أن يكتفوا بالتهليل والانبهار بالصور الواردة لهم حول «التضامن الغربي» والفعاليات التي تنظمها جماعات ضغط وناشطون، قد يكونون مستفيدين بدورهم من حالة الحرب الدائمة. من جهة أخرى، فإن هياكل الحرب الشرق أوسطية لا تقتصر فقط على المصالح الاقتصادية، وآلة الحرب الإسرائيلية، وشبكات الميليشيات المشرقية، المدعومة من إيران، وإنما تدفعها أيديولوجيات قومية ودينية متطرّفة، تصل في كثير من الأحيان إلى المطالبة بالتطهير العرقي، ويمكن تتبّع جذورها، وكذلك تحولاتها، في عقائد تأسيسية كبرى، ومنها الصهيونية والقومية العربية والفارسية والإسلام السياسي. ومن المستغرب أن لا تلتفت حركات تصف نفسها بـ»اليسارية» للعناصر الفاشية الكثيرة في تلك الأيديولوجيات، بل أن تعتبر بعضها حليفاً لها. مجدداً، أكبر المتضررين هم أبناء المنطقة.
نحو السلام
لا تتجه هياكل الحرب الدائمة لتحقيق أي نصر حاسم لأي طرف، نظراً لتعدد الأطراف المتداخلة فيها، وكثرة العصابات والميليشيات، المستعدة لتوجيه سلاحها بما يناسب تغيرات الأوضاع الإقليمية والدولية، فضلاً عن عدم قدرة، أو رغبة، القوى العالمية الكبرى في إتاحة سيطرة أي وكيل إقليمي على حساب الآخرين، ويبدو بالفعل أن منطقتنا قد «أُدمجت» في النظام العالمي القائم، عبر الحرب، وسياساتها واقتصادياتها، وهو نظام بات منتجاً للحروب حتى في القارة الأوروبية. ولذلك فإن التعويل على أي طرف محارب، مهما بدت مبادئه سامية، قد يكون بلا جدوى، فيما السلام يبدو أقرب لأن يكون «الخيار السياسي» ما دمنا لا نملك خياراً في حرب تقودها قوى ضد اجتماعية، لا يمكن التأثير على قرارها، ولا تقبل المشاركة السياسية الفعلية في معاركها.
يتطلّب السلام أساساً السعي لإخراج البشر من الحالة البيولوجية، التي تردّهم إليها هياكل الحرب وأيديولوجياتها. هذا يعني محاولة ترميم المجتمعات الممزقة قدر الإمكان؛ وعدم اعتبارها «ثمناً» لأي قضية، أو جزءاً من أي أمة أحادية؛ ومنحها شيئاً من السياسة، عبر السعي لأجل تأسيس هيئات ديمقراطية لها، سواء كانت تمثيليّة أو مباشرة. ما يضيف مسألتين أساسيتين لقضية السلام: حرية المعتقد والتعبير، الضرورية لقبول التعددية الاجتماعية؛ وتفكيك الأساطير المؤسِّسة لأيديولوجيات الإبادة السائدة.
محمد الكيال
كاتب سوري