القاهرة : من القطار إلى التوكتوك

{clean_title}
الشريط الإخباري :  

شهدت مدينة القاهرة في السنوات الأخيرة حركة ضخمة وغير مسبوقة من مشاريع البنية التحتية، ومد وتوسعة شبكات الطرق والكباري، بالإضافة إلى مشاريع الأنفاق والقطارات والمترو، ومشروع المونوريل والقطار الخفيف، وخلاف ذلك من المشروعات التي تتعلق بالنقل والتنقل. وعلى الرغم من أهمية وضرورة البنى التحتية في دفع عمليات الإنتاج والاستهلاك والتبادل المعيشي، لكن ما يصعب على الكثيرين فهمه هو خلفية هذه الطفرة، وسرعة تشييد ما هو ضخم في زمن قياسي لم يعتد عليه المواطن المصري من أي حكومة سابقة؛ لذلك كان وما يزال السؤال المحير: كيف لحكومة تعاني من تضخم اقتصادي، وعجز ميزانية، واستدانة داخلية وخارجية مزمنين؛ أن تظهر بتلك الكفاءة المفاجئة؟
وهناك من يستند في تفسير ما يجري إلى عوامل الاقتصاد السياسي العالمي لمشاريع البنية التحتية، وبالأخص بعد الأزمة المالية عام 2008، التي دفعت بالدول الكبيرة إلى التركيز في عمليات إقراضها على مشاريع البنى التحتية. وفي حالة مصر نرى أن هذا التحول قد عبر عن نفسه من خلال نقل عاصمة البلاد من القاهرة إلى مدينة صحراوية جديدة تستضيف 6.5 مليون شخص (إحياءً لمقترح كان مطروحا منذ السبعينيات) وتطلّب ذلك بناء أكثر من 4000 كيلومتر من الطرق السريعة، وتشييد بنى نقل تحتية مهيبة. كان هذا الإعلان بداية صريحة لوضع البنى التحتية كضرورة حتمية للتنمية المستقبلية في مصر وصعود دولة البنية التحتية المصرية.
إلا أن تداعيات هذا التطور، لا تقتصر فحسب على مستوى ظهور طرق وشبكة مواصلات جديدة، بل أيضا انعكاس ذلك على الحركة اليومية للبشر والمركبات، فثمة تباين جلي وواضح بين مشاريع الطرق والنقل العملاقة من جهة، وجودة خدمات الطرق والنقل الجماعي داخل وحول المدن من جهة أخرى؛ فالاختناقات المرورية وسط وغرب وجنوب القاهرة، أطول وأكثر تكدسا – مما كان من قبل إنشاء المحاور – عن مثيلاتها في اتجاه القاهرة الجديدة، أو العاصمة الإدارية الجديدة. كما نلاحظ أن نمو شبكة المواصلات ترافق مع ارتفاع حوادث السير والوفيات في السنوات الأخيرة، وهو ما جعل المدينة أقل أمنا مقارنة بالسابق.
ويحاول كتاب «في عرض الطريق» تحرير داليا وهدان ـ لمياء بلبل، المرايا للثقافة والفنون، دراسة التطورات الجديدة في شبكة المواصلات داخل القاهرة، انطلاقا من أن البنى التحتية والفضاء الحضري يساعدنا على رؤية الطرق والكباري والمواصلات والمركبات كأنظمة تكنولوجية غير مصمتة، وكتقنيات سياسية – اجتماعية دائمة التفاعل مع اقتصادات السوق وثقافات المجتمع. ويرى المشرفون على الكتاب، أن هذه الشبكات ليست مجرد أدوات فنية بحتة تخضع لمعايير عقلانية محايدة، وإن بدت هكذا، بل هي كيانات يتم تشكيلها وإعادة بنائها بشكل دائم؛ من خلال قوانين ولوائح تنفيذية رسمية، وإجراءات وممارسات غير رسمية، قابلة للخلاف والجدل والصراع. ولذلك فهل تمثل انعكاسات ديناميكية لجدلية الثبات والحركة، وبالتالي فهي أشكال حضرية متغيرة.
يدور قطاع التنقل في القاهرة بين هيئات عامة قومية؛ مثل: شركة النيل الوطنية للنقل النهري، وهيئات تبدو من اسمها أنها قومية، مثل: هيئة النقل العام التابعة لمحافظة القاهرة، وهيئة مترو الأنفاق على سبيل المثال لا الحصر. وتأتي الجمعيات التعاونية المسجلة تحت وزارات التنمية المحلية أو التخطيط أو التضامن الاجتماعي مثل: الجمعية التعاونية الإنتاجية لنقل الركاب وتوفر حافلات متوسطة (30 راكبا فأقل) وتقوم في الغالب على مبادرات عائلية، ولا يوجد حصر لحجم أساطيلها المسيرة، ثم الشركات الخاصة (سياحية أو رحلات) والشركات الحديثة، مثل: أوبر وإن- درايفر وسويفل، التي قد توفر خدمة الأسكوتر ، يضاف إليها جحافل الميكروباص، التي لا تستحوذ على نصيب الأسد في عدد الخطوط والرحلات اليومية في القاهرة الكبرى فحسب، بل تشكل مثالا حيا وحصريا عن تداخل قطاع الأمن الوطني ووزارة الداخلية وشرطة المرور والأفراد والأهالي وشركات الاستيراد والتصدير في ديناميكية التنقل والاقتصاد الأسري والحضري. وتليها فئة نقل الأهالي، أو ما يعرف خطا بالقطاع غير الرسمي، أو في رواية أخرى: النقل العشوائي، مثل: سيارات السوزوكي (التمناية) والتوك توك، والدراجات النارية، والتريسكل، ولكل منها قصص وحكايا.

قطار حلوان

يضم الكتاب مجموعة من الأبحاث الإثنوغرافية، التي حاول فيها كل باحث تتبع تفصيلة وجزئية معينة من حياة الناس والمركبات داخل القاهرة. أولى هذه التجارب جاءت كما يرى المشاركون على الكتاب من خلال مشروعات تحديث النقل السككي داخل مدينة القاهرة، وبالأخص قطار حلوان (الخط الأول لمترو أنفاق القاهرة الكبرى حاليّا) فمع بدايات القرن التاسع عشر بدأ محمد علي مشروعه الحداثي، وكانت القاهرة نموذجا للمدن التي نمت بالتدريج، وتشكلت أحياؤها طبقا لقواعد النمو التراكمي عبر الزمن، وخلال تلك الحقبة تكونت المدينة من هيكل عمراني مجتزأ نسبيا، متضمن مجموعة من الأحياء العمرانية المتصلة أحيانا بدروب وطرقات المدينة القديمة، والمنعزلة كثيرا بالأراضي الخلاء والبرك والقنوات المائية والمساحات المنزرعة. قرب نهاية القرن التاسع عشر كان مشروع الخديوي إسماعيل الضخم قد أحدث تغييرا جذريا في بنية المدينة، من خلال خطوط السكك الحديدية التي بدأ إنشاؤها في عهد عباس الأول، وبهذا تكوّن للقاهرة نموذج عمراني يضم قلب المدينة ومركزها الحضري الرئيس (القاهرة القديمة والحديثة) تتصل به الضواحي السكنية (المطرية شمالا – حلوان جنوبا) بواسطة قطارات السكة الحديد، وبينهما تقع مجموعة من الأنوية العمرانية المتفرقة (العباسية شرقا ـ إمبابة غربا ـ شبرا شمالا ـ مصر العتيقة جنوبا).
وبعد سنوات قليلة توالت خطوط السكك الحديدية واحدا تلو الآخر، وبات القطار وسيلة التنقل الرئيسية للمسافرين عبر القاهرة وضواحيها. وقد شكل الوصول لهذه الشبكة النقلية الجديدة تحديا كبيرا بالنظر إلى منظومة التنقل ووسائل المواصلات البدائية التي اعتمدت عليها القاهرة لقرون طويلة. وفي سنة 1875 تم الانتهاء من مد الخط إلى حلوان الحمامات بواسطة رجال الجيش؛ ليقتصر استعماله على الأغراض العسكرية فقط، وبذلك أمكن الوصول من القاهرة إلى حلوان من خلال الخط الحديدي القائم الذي يمر حول المدينة عبر العباسية، وفي عام 1877 افتتحت محطة القطارات الرئيسية (الميدان) بالقرب من مصطبة المحمل أسفل القلعة؛ للتسهيل على المسافرين بعد البدء في استغلال هذا الخط تجاريا من خلال تسيير قطارات الركاب للضاحية الجديدة. هكذا دخلت مصر عصر قطارات الضواحي عبر قطار القاهرة ـ حلوان.

القاهرة.. إثنوغرافيا الأتوبيسات

من أغنى الفصول في الكتاب، هو الفصل المتعلق بدلالات إكسسوارات الأتوبيسات والتوك توك في القاهرة، إذ تبدو هذه الإكسسوارات وهي تحمل معاني مهمة عن المدينة وحياة السائقين والمصريين عموما. إذ نعثر داخل وسائل النقل هذه على أضواء وتماثيل وألعاب ومجسمات ولافتات، وهي بضائع يشتريها معظم السائقين ويرتبونها في السيارة بترتيبهم الخاص، منها ما هو مرئي، ومنها ما هو مقروء. نرى الميكروباصات مفروشة بالفراء أو الجلد الصناعي، يحمي هذه المفروشات هيكل السيارة البلاستيكي من الشمس؛ كما أنها تستخدم كغطاء توضع تحته نقود الأجرة من أجل تسهيل إتمام عمليات الحساب المعقدة أثناء السير وبيد واحدة، وعادة ما يعلو هذه الفرشة المجسمات والألعاب الملتصقة بهيكل السيارة وبزجاجها الأمامي.
وفي هذا السياق، نرى أن هناك ثلاثة مستويات من معاني الإكسسوارات: مستوى ذاتيا مرتبطا بالرغبات الجمالية والدلالية التي يحدث بها السائق نفسه، ومستوى داخليا في المجال الخاص المؤقت داخل المركبة، يشارك به السائق ركابه، ومستوى خارجيا يعلن به السائق عما في داخله للمجال العام الذي يشكله المارة ورفقاء السير وحتى أفراد الأمن على الطريق.
بالنسبة للشخصيات العامة تشتهر صورة الشيخ محمد متولي الشعراوي على زجاج الميكروباصات في الزجاج الخلفي فتحجب رؤية مَن بالداخل، يقول أحد السائقين: «يعملوها عشان لو السواق مننا مقيِّل في العصرية في الموقف، ما يبقاش مكشوف لخلق الله، وبعدين الأمين بيتكسف يقول لي شيلها» الشخصية التي تلي الشعراوي شهرة، لكن في عالم التكاتك هو المطرب بوب مارلي بسيجارته العملاقة وعلامات زهرة الماريجوانا، كما تشتهر الأحرف والكلمات والعبارات، ويلاحَظ أن الفروق الطبقية في الرأسمال الاجتماعي كمفهوم تحليلي للطبقة طرحه بيير بيرديو، يتجلى بين سائقي التكاتك وسائقي الميكروباصات والأتوبيسات، ويخلق مضمونا مختلفا في الأحرف والأسماء والعبارات المختارة. تخبرنا الأحرف في الأغلب عن اسم صاحب المركبة، وغالبا ما تكون مزينة بتيجان أو بقلوب، أما الكلمات فتكون في معظمها اسم صاحب المركبة، أو لقبه/ أو كنيته أو أولاده، وفي عالم التكاتك نرى أن العبارة الموضوعة مقصودة ومعبرة عن شخصية سائقها، وهي في الأغلب تعبر عن صراعات الشارع ومعاناتهم من عشوائيته غير المنتظمة، ولذلك ويحاولون بها تنظيم مرورهم بالحكمة المتوارثة، وكأنه عرف اجتماعي سري لضبط آداب الطريق.

محمود تركي الربيعو 

كاتب سوري

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة الشريط الإخبارية 2024
تصميم و تطوير
Update cookies preferences